التربية.. قواعد وأصول
د. منيرة العيد
التربية.. قواعد وأصول أجمع المربون على أهمية التربية، فهي الضمان الوحيد للتصدي
للتيارات المناهضة لما تؤمن به الأمة من مبادئ وقيم،
في عصرٍ تقاربت فيه المسافات وتعددت فيه وسائل الاتصالات.
إن إدراك المربي للهدف من التربية يساعده في تحديد الوسائل والطرق والأساليب
التي يسير عليها في تربيته للناشئين ولنفسه وللآخرين، والهدف الأسمى من التربية
هو: تنمية قدرات الفرد وإطلاق إمكانياته، وتقوية شخصيته إلى أقصى حد تسمح به استعداداته.
وفي ضوء هذا الهدف تنبثق الأهداف الفرعية الموصلة إليه:
1) تعريف الفرد بخالقه، وبناء العلاقة بينهما على أساس: ربانية الخالق وعبودية المخلوق،
وإعداد الفرد للحياة الآخرة، وذلك من واقع الكتاب والسنة والسيرة النبوية وسير السلف الصالح.
2) تطوير وتهذيب سلوك الفرد، وتنمية أفكاره، وتغيير اتجاهاته؛ بحيث تنسجم
مع الاتجاهات الإسلامية، والسعي لتحقيق السمو النفسي، لكي نقيم مجتمعاً قوياً ومترابطاً.
3) تدريب الفرد على مواجهة متطلبات الحياة المادية، وكسب الرزق الحلال والتأكيد على ذلك.
4) توجيه المسلمين لحمل الرسالة الإسلامية إلى العالم.
5) غرس الإيمان بوحدة الإنسانية، والمساواة بين البشر،
والتفاضل إنما هو بالتقوى، بالإضافة إلى تقوية روح الجماعة.
6) تحقيق النمو المتكامل المتوازن لجميع جوانب شخصية الفرد؛
فالإنسان: جسم وروح وقلب وعقل وعواطف وجوارح.
الأسرة في الإسلام ودورها التربوي
الأسرة هي اللبنة الأولى في تكون المجتمع البشري؛ بصلاحها واستقامتها وتراحمها
يصلح المجتمع ويستقيم ويتراحم، وبفسادها يفسد المجتمع وتتهاوى أواصره، فمن
خلال الأسرة يستلهم الطفل انفعالاته الأولى في: الحب والكره والغضب والحلم والتعاون
والأنانية. فهي جسر العبور بالطفل إلى العالم الأوسع، حيث إنها تعلمه الاحترام والتقدير
وتحمل المسؤولية، وتعده للتكامل وتُشبع عنده الحاجة إلى الاستقرار العقلي والعاطفي.
ومعظم مشاعر الطفل تتمركز حول الأم والأب؛ بحيث تميل إلى أن تصبح اتجاهاته وتوقعاته
الاجتماعية نسخةً من اتجاهاتهما وتوقعاتهما، ويحدث
هذا التعلم قبل أن يكون للطفل إدراكٌ واعٍ بنفسه وبالآخرين.
إن علاقة الطفل بوالديه ترسم مستقبلاً طبيعة تكوينه النفسي، وسمات شخصيته،
وطبيعة علاقته بالآخرين، فقد بينت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين يرون أنه
بالإمكان العيش مع الناس، والتعاون معهم، والتضحية من أجلهم، كانت علاقاتهم
إيجابية مع والديهم، في حين أولئك الأطفال الذين يعتقدون أن العلاقات الاجتماعية
عبارة عن قانون الغاب، كانت علاقاتهم سيئة مع والديهم، كما وُجِدَ أن السلوك
المضطرب للوالدين ينعكس بالمِثْل على الأبناء؛ فالأطفال الذين تعرَّضوا لصرامة
مفرطة في البيت أظهروا ميلاً للعدوانية أكثر من سواهم، في حين وُجِد أن الأطفال
الذين يعتقدون أن الطبيعة البشرية خيِّرة بالأساس قد أقاموا علاقات إيجابية
مع الوالدين، أكثر من أولئك الذين يرون الناس أشراراً بطبيعتهم.
وكما أن للوالدين حقاً على أولادهم؛ فإن للأولاد حقاً على والديهم، فالله
عز وجل كما أمرنا ببر الوالدين، أمرنا أيضاً بالإحسان إلى الأبناء.
قال المناوي: لأن يؤدِّب الوالد ولده، ويُنشئه على أخلاق الصالحين، ويصونه عن مخالطة
المفسدين، ويُعلِّمه القرآن والأدب، ويُسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام
الدين مالا غنى عنه- خيرٌ له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدَّبه صارت أفعاله
مع صدقاته الجارية تدوم بدوام الولد، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها.
وعلى الرغم من عظم مسؤولية الأبناء؛ إلا أن الكثير منا قد فرَّط بها واستهان بأمرها،
ولم يرعها حق رعايتها، فأضاعوا أبناءهم، وأهملوا تربيتهم، فهم لا يسألون عنهم،
وإذا رأوا منهم تمرداً أو انحرافاً بدؤوا يتذمرون ويشكون من ذلك، وما علموا أنهم السبب الأول
في ذلك التمرد والانحراف، متناسين أن الأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة. فرسالة الوالدين
رسالة عظيمة لو أحسَنَا تأديتها لفازا بخير الدارين بإذنه تعالى.
قال - صلى الله عليه وسلم -:
(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
هذا وقد يحسب بعض الناس أن جهل الوالدين بأصول التربية الصحيحة سبب سوء سياستهما
ومعاملتهما لأطفالهما، غير أن الدراسات الحديثة بيَّنت أن النضج الانفعالي للوالدين من
أهم العوامل في تنشئة الطفل، فالثقافة والعلم بشروط التربية السليمة لا تنفع الوالدين
إن لم يكن لديهما قدرٌ كافٍ من النضج الانفعالي الذي يعينهما على تحمُّل أعباء التربية،
وتكاليف تبعاتها، وما تتطلبه من تضحية وإنكار للذات، مع حزم وحب يعطي ولا يأخذ،
فماذا تنفع الثقافة ومعرفة أصول التربية مع انفعالٍ حاد وشراسة في الطبع؟
إن الأم الحانية والأب المتزن- وما يتسمان به من متابعة لأبنائهما بالعقل الواعي
والمعاملة الطيبة- يصنعان ما لا يصنعه كبار علماء التربية، حتى لو لم يعرفا تفاصيل التربية.
ولقد دلت تجارب العلماء على ما للتربية في الأسرة من أثر عميق خطير- يتضاءل دونه
أثر أية منظمة اجتماعية أخرى- في تعيين الشخصيات وتشكيلها، خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة
وذلك لعدة أسباب منها:
1) أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعاً لتأثير جماعة أخرى غير أسرته.
2) أنه في هذه المرحلة سهل التأثر وسهل التشكيل، شديد القابلية للإيحاء
والتعلم، قليل الخبرة، عاجزٌ، ضعيف الإرادة، قليل الحيلة.
3) ثبت أن السنوات الأولى من حياة الطفل فترة خطيرة في تكوين شخصيته،
وتتلخص هذه الخطورة في أن ما يُغرس في أثنائها من عادات واتجاهات وعواطف
ومعتقدات يصعب أو يُستعصى تغييره أو استئصاله فيما بعد،
ومن ثم يبقى أثراً ملازماً للفرد خلال سنوات عمره المقبلة.
4) إن الطفل يولد نقياً من كل الشوائب، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
(ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
ولو تُرك الطفل على هذه الفطرة من غير تأثير لما كان إلا مسلماً،
ولكن الحجب والقدوة السيئة قد تحول دونها.
لذا فواجب الأبوين المسلمين رعاية فطرة الأبناء، والاجتهاد في تحسين تربيتهم،
ولا يكفل للوالدين النجاة يوم الحساب إلا أن يبذلا ما في وسعيهما لصلاح رعيتهما،
فقد أمرنا المولى عز وجل قائلاً:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
[التحريم: 6].
وقال تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}
[الطور:21].
ومن هنا نؤكد على الوالدين وكل المربين أن يتقوا الله في هذه الأمانة، فهم يوم
القيامة عنها مسؤولون، وقد عرف أعداؤنا أهمية الأسرة، فحرصوا على تمزيق أواصرها،
وسلكوا من أجل ذلك كل السبل: فتارة بالدعوة إلى الإباحية وتفكيك روابط الأسرة، وأخرى
بدعوى المرأة إلى التخلي عن واجباتها الأسرية،
وثالثة بإحلال المؤسسات التربوية الجماعية محل الأسرة.