أول خطبة جمعة في المسجد الأقصى بعد تحريره على يد صلاح الدين
________________________________________
هذه أول خطبة جمعة في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين
القدس: في اليوم الثامن بعد الفتح 4شعبان 583هـ الموافق 10 أكتوبر 1187م
خطب القاضي محيي الدين بن زكي الدين
الخطبة الأولى في المسجد الأقصى بعد تحريره من أيدي الصليبيين، افتتحها بهذه الآيات:
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ثم قال:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً.. (الآية) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض، الحمد لله فاطر السماوات والأرض، الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدينكله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والأمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك وداحض الشرك وراحض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه، بعد أن أمتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد (عليهما الصلاة والسلام) وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهومقر الأنبياء ومقصد الأولياء، ومفر الرسل ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين..
وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى، الذي شرفه الله برسالته وكرمه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ..} وقال: [لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ]
وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية! جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ماتقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء..
فاقدروا ـ رحمكم الله ـ هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء،وابتهج به الملائكة المقربون، وقرَّ به عيناً الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..} الآية؟!
أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل؟!
أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على “يوشع” لأجله أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟!
أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه، فلم يجبه إلا رجلان، وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟!
فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته “كان وقد” عن “سوف وحتى”، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده، وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث..
فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله، التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم. واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى، ورجوع القهقرى والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة،وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد. لا والله [مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ].
واحذروا ـ عباد الله ـ بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيما من معاصيه؛ فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}، و[الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ].
والجهاد الجهاد؛ فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم.
انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم.
جدوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله؛ فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية،
الله أكبر فتحَ الله ونصر، غلبَ الله وقهر، أذلَّ الله مَنْ كفر.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وبرزوها، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول.. وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}؟!
أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده
[إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده] (وتمام الخطبة والخطبة الثانية قريب مما جرت به العادة، وقال بعد الدعاء للخليفة):
اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس “أبي المظفر يوسف بن أيوب” محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه..
اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته. اللهم كما فتحت على يده البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون وابتلي المؤمنون.. فافتح على يده أداني الأرض وأقاصيها، وملكه صياصي الكفرة ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها..
اللهم اشكر عن محمد سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار..
اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم..
اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله: [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]..
ثم دعا بما جرت به العادة******************************************
و الان و قد نزع الله منا هذه النعمة و هذا الفضل و النصر بما قدمت أيدينا ، فهل منا من سيتدبر ما في هذه الخطبة التي تسابق اليها العلماء المخلصين في زمن صلاح الدين؟
هل منا من سيحي عقيدة الإسلام في نفسه و بيته وولده و زوجه وعمله و يكون أمين على ثغور الأمة حتي نعيد عزة الإسلام و المسلمين؟
لندعو الله أن يخرج فينا صلاح الدين ليحرر الأقصى من دنس اليهود ،اللهم آمين
لا تنسونا من صالح دعائكم
غفر الله لنا ولكم