تحقيق الذات والصحة النفسية
تشير جملة تحقيق الذات إلى إحساس الفرد بسمات التلقائية والاندفاع إلى الأمام وإلى المخاطرة والتفرد وتغاير الحركة بينما يشير مفهوم الصحة النفسية إلى اتسام الفرد بالمحافظة والتدبر واستقرار الحركة وتشابه مفرداتها والميل إلى الأمان. وتحدد اللجنة القومية الأمريكية مفهوم الصحة النفسية
توافق الأفراد مع أنفسهم ومع العالم أجمع ـ يواكبه أقصى قدر من الفعالية والرضا والمرح والسلوك الذي يراعي معايير المجتمع والقدرة على مواجهة واقع الحياة وتقبله..)
والتوافق لا يعني الاستكانة إلى صدمات الحياة بقدر ما يعني الاستعداد للتعامل معها وتحويل غير السار منها إلى أمور مقبولة أو على أقل تقدير معايشتها إن لم نتمكن من تغييرها. والتوافق مع الذات يعني تقبل مثالبها ومحاولة إصلاح عيوبها وكذلك تقبل محاسنها بلا غرور أما التوافق مع العالم أجمع فيشير إلى استعداد الفرد للاعتراف بحقوق الآخرين وتفردهم كما أن الصحة النفسية ليست حالة بقدر ما هي عملية تفيد الاستمرار وهو المعنى الذي يحمل أقصى قدر من الفعالية حيث إنه ما من أحد يستطيع أن يحدد الحد الأقصى من هذه الفعالية وإنما يسعى إلى الأفضل دائماً كما أن مفهوم الفعالية يوحي ببذل الجهد المناسب للوصول إلى الأهداف الواقعية التي يضعها الفرد ويقرها المجتمع أما الرضا فهو تحقيق الراحة من إشباع للحاجات النفسية والاجتماعية. ولا يقصد بالمرح دوام الابتسام بقدر ما يعني الإحساس بالتفاؤل بصفة عامة والسلوك الذي يراعي معايير المجتمع يشير إلى تلك الشخصية الديمقراطية التي ترى في المجتمع أصدقاء تكن الاحترام لهم وتحفظ الاحترام لذاتها. ونجد في القدرة على مواجهة واقع الحياة وتقبله معياراً للصحة النفسية وكذلك سبباً مؤدياً إليها يتحقق من خلال معايشة هذا الواقع فهم لا يقبلون الشر أو الظلم ولكنهم يسعون إلى الإصلاح بدلاً من النقد الهدام.
بل إن أعلى الناس تكاملاً في الشخصية وأقواهم إرادة وأشدهم عزيمة كانوا هم الأنبياء والرسل (النبيين والشهداء والصديقين) وهم لم يشبعوا حاجاتهم الفسيولوجية قبل أن ينظروا إلى حاجات التكامل ولم يجدوا أمنهم في اقترابهم من الناس مثلما وجدوه في قربهم من الله وحققوا ذاتهم عندما أدوا رسالتهم رغم الإيذاء والإهانة (القوصى، 1975م: 101).
وقد نجد مَن يعقد مقارنة ـ أو مماثلة ـ بين شخصية الانسان المحقق لذاته وشخصية الفرد المؤمن في الفكر الاسلامي ولن يكون من الصعب إيجاد ما يؤيد هذا التشابه فالانسان المحقق لذاته ـ من وجهة نظر ماسلو ـ يستمتع بالخبرات العلى التي تتمثل في الإعجاب بانجازات الانسان… وبالكم الهائل من النجوم في سماء ليل صاف.. وفي التمتع بغروب الشمس على حد الأفق وفي الإحساس بالبهجة من تنفس هواء الصبح النقي.
إنه يشعر باعتلاء النفس عند سماع موسيقى رائعة مثل مقطوعة (المسيح) لهاندل وبالسعادة عندما تشنف الآذان تغريد الطيور وأكثر من ذلك إحساس الفرد بالشكر أنه على قيد الحياة وقد أوضح ماسلو أن تحقيق الذات يعتمد في الأساس على بعدين رئيسيين هما: البعد الأول القدرات الذاتية (Potentials) وهي ما لدى الانسان حال ميلاده وتحتاجه إلى التحقيق في حياته… إنها الطاقة الذاتية التي تماثل الطاقة الفيزيائية، والبعد الثاني الامكانيات المحيطية (Possibilities) وهي ما يدخل في نطاق التحقيق من المحيط، وتحقيق الذات يتم بالجمع بين القدرة الذاتية وإمكانية التحقيق (Potenila & Possible) ولن تتحقق ذوات الناس إذا ما صادفهم العقبات في المحيط أو حرموا من القدرات الذاتية بغض النظر عن رأي المجتمع في القنوات المناسبة لتوجيه هذه القدرات. إن تحقيق الذات هو لهؤلاء الأفراد الذين يقومون بأعمال صارخة الذين أشبعوا حاجاتهم الأساسية (الفسيولوجية، الأمن، الحب، التقدير) وأغلقوا أعينهم وتوجهوا إلى داخلهم وتعرفوا على ما يحبون وما يكرهون، ما يريدون وما لا يريدون ولم يعتمدوا على ما يقوله لهم الآخرون أو يشيع بين الأفراد من ذات أعمالهم، ومن خلال هذه النظرة الداخلية تعرفوا على نقاط مظلمة في شخصياتهم وكذلك نقاط مضيئة ومن خلالها أجابوا على أسئلة: (مَن نحن؟ وماذا نريد؟ وما هي مهمتنا في هذه الحياة؟) فاتضح طريقهم وساروا على دربه.
أليس من صفات الفرد المؤمن التفكر في خلق الله سبحانه وشكره على ما آتاه؟ إنه يتمتع بزينة الحياة التي أحل الله أنه يستمتع بقراءة القرآن وبتسبيح الطيور إنه يتميز عن غيره ويعرف قدراته ومهمته في هذه الحياة ويتضح طريقه فيسير فيه وعلى هداه. ولكن النظرة الفاحصة للغاية وللمعيار المتبع في تحديد الطريق الموصل إلى الغاية يجعلنا لا نقر هذا التشابه أو أن نجمع بين الأفراد المحققين لذاتهم عند ماسلو والمؤمنين في خندق واحد، فالفئة الأولى لا ترد إعجاز الخلق إلى الخالق ولا يتقون المحارم وشكرهم قاصر على ما يتلقون من إكرام ولا يصبرون على ما يواجههم من ابتلاء، وإشباع حاجاتهم أي استكمال حدها الأقصى أو ما يقارب هذا الحد أمر لازم يهتمون به قبل أن يقوموا بما يكفل لهم تحقيق ذاتهم. أن معيارهم الهوى وهو معيار التردي في النظرة الاسلامية. أنهم فرديون متفردون.
يتقبلون غيرهم ولا يسعون إلى الأخذ بيدهم ـ ورغم كل هذا التباين فلم يجد ماسلو من تجمع فيه صفات تحقيق الذات إلا القلة النادرة مما يشير إلى افتقار النموذج إلى بعد الواقعية وابتعادها عن أصل الانسان وهو وضع مختلف بالنسبة للمؤمنين.
ويجرنا حديثنا عن خطأ الربط بين الأفراد المحققين لذواتهم في المفهوم الغربي وبين المؤمنين إلى الحديث عن محاولات الربط بين نموذج الحاجات والرؤية الاسلامية للدافعية، فقد أشار بعض الدارسين في هذا المجال إلى أنه من الممكن اعتماد هذا النموذج مع إضافة (الحاجة إلى الدين) كأحد الحاجات الرئيسية الفطرية التي توجه سلوكيات الأفراد مع اختلاف تصوراتهم لهذه الحاجة أو وسائل إشباعها ومكانها في السلم الهرمي لتدرج الحاجات، (عوده، مرسى، 1984) وسوف نتطرق إلى مفهوم الحاجة ومدى مناسبته في مقام آخر من هذا التقرير ولكنا نجد أنه من الواجب أن نير إلى ن اعتماد الغرب لهذا النموذج ناشئ أساساً من اعتبارات عَقَدية تختلف عنها في الفكر الاسلامي وعلى هذا فإنه من الخطأ إرجاع النموذج الغربي إلى المعايير الاسلامية أو الحكم عليه من خلالها، وكذلك يصعب قبوله على إطلاقه في النموذج الاسلامي.
وكما أن تحقيق الذات كمعيار للصحة النفسية يختلف في الغرب عنه في الاسلام كذلك الحاجة إلى تقدير الذات Self esteem التي تعتبر من أسس الدافعية في نموذج ماسلو حيث تقف الحاجة إلى تقدير الآخرين وراء كثير من نشاطات الانسان وأعماله. فإن ابتغاء مرضاة الأفراد من وراء السلوك يعتبر مظهراً من مظاهر الرياء إن لم يكن هو، والرياء من علامات الانحرافات النفسية المؤدية إلى الاعتدال النفسي (مرسى، 1987). وقد اعتبره الاسلام من سمات المكذبين بالدين (الماعون/ 1 ـ 7) وجاء في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر… قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء).
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي (ص) أنه قال: (إن في جهنم لوادياً تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد: لحامل كتاب الله وللمصدق في غير ذات الله، وللحاج إلى بيت الله وللخارج في سبيل الله).
وأخرج أحمد في مسنده قوله (ص): (مَن سمّع الناس بعمله سمّع الله به سامع خلقه وحقّره وصغّره)، ومعناه أنه مَن أظهر عمله للناس رياء ليعظم عندهم فضحه الله على رؤوس الخلائق وأبدله خزياً في الدنيا والآخرة حين يتسعر به النار. والأحاديث في هذا المقام كثيرة ولكن ذلك لا يمنع أن يعمل الفرد الخير ويحمده الناس عليه، فقد جاء في صحيح مسلم أن الرسول (ص) قال: (أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن). ولذا فإن السعي وراء اكتساب تقدير الآخرين كدافع للجهد الانساني يعتبر من الأمور غير المقبولة في الإطار الإسلامي.
أما بالنسبة للحاجة إلى الأمن فترتبط في النموذج الغربي أساساً بإشباع الفرد لحاجاته وعندما يحصل على العمل المناسب ويجد المسكن المناسب، ويأمن على نفسه وعرضه وماله، والنموذج الاسلامي يقر هذا الأمن الدنيوي، فقد روى الطبراني: أن رسول الله (ص) قال: (مَن أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا). ولكنه لا يعطي هذا الأمن الدنيوي الثقل الذي يعطيه له الغرب فيأتي في المقام الثانوي ويأتي أمن الآخرة أكثر احتواء لارتباطه بالإيمان، وتختلف دافعية الأمن المرتبطة بالإيمان عن دافعية الأمن التي ترد في أي نظرية وصفية في أمرين أساسيين على الأقل، أولهما أنها لا ترتبط بنتيجة محددة لابد من تحقيقها لأن هدفها الأسمى مضمون التحقيق كما أنها ذاتية المنشأ ربانية المصدر مما يجعلها ثابتة في مواجهة العواصف التي تعتبر ابتلاء يستهدف التمحيص والتدريب (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) آل عمران/ 200، ولذا اعتبر ابن تيمية أن نفيه سياحة وسجنه خلوة وحمل أمنه في قلبه بين ضلوعه.
وثانيهما أنها لا تفصل بين الغاية والوسيلة مما يناقض المنحى الميكافيللي في تحقيق الإشباع للدافعية، فلا يتحقق أمن الانسان في خوف الآخرين أو في ارتكاب المعاصي.
وكذلك الحاجة إلى الحب والانتماء في النموذج الغربي يقوم على أساس من المقبولية الاجتماعية والمنفعة المتبادلة، ومؤدياً إلى تحقيق التماسك الاجتماعي والتوافق النفسي، ولكن النموذج الاسلامي يقر هذا الأساس باعتباره أساساً ثانوياً يعتمد في المقام الأول على الحب في الله واتباع منهجه، فإذا تعارض الأساس الثانوي مع التعاليم الاسلامية كان الاعتزال أوجب واللاانتماء أجدر. لذا روى مالك في الموطأ أن رسول الله (ص) قال: (قال الله تعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في).
أما إذا كان الاجتماع على الشرك فهو أمر مرفوض (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دنكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ…) آل عمران/ 118 ـ 119، واعتزالهم مدعاة لأن ينشر الله رحمته (وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) الكهف/ 16، وهكذا يكون الحب والانتماء متعلقاً بالثابت دون المتغير مما يضمن رسوخ العلاقة.
ثم تأتي الحاجات الفسيولوجية التي تعتبر قاعدة هرم الدافعية ويسعى الأفراد إلى إشباعها قبل أن تنشأ حاجاتهم الأخرى ويأتي اختلاف الرؤية الاسلامية لها في اعتبارات الكم والنوع، فمعيار الشبع والإشباع ليس هو مقياس الاكتفاء بل ربما يكون موازياً للإسراف (الأعراف/ 3) واعتبرت التخمة أصل كل داء، وتحدد التعاليم الاسلامية نوعية الطعام من حلال وحرام وطيب وخبيث وكذلك تكون الحاجة إلى الجنس والحاجة إلى الراحة والتوازن العضوي. وتأتي أدنى درجاتها مع الضرورة التي تحكم بقاء الفرد فإذا تهدد وجوده رخص له بالطعام الذي يحفظ له حياته. ودعا إلى الصوم وِجاء من شهوة الجنس، ولم تكن هي أساس الدافعية بقدر ما هي من المهلكات إذا ما امتلكت الانسان ولم يمتلكها هو، (ومن وجهة نظرنا في الصحة النفسية يجب أن يخضع الانسان إشباع حاجاته إلى الطعام لإرادته، فيسيطر على دافع الجوع… لأن مراض الشراهة والنهم لا تقل خطورة عن أمراض الحرمان) (عوده، مرسى 1984، 80).
إن إشباع الحاجة الفسيولوجية ليست غاية في حد ذاتها وإنما يأتي التعامل معها كوسيلة لتحقيق غاية مرحلية لا تفسد الغاية الكلية كما أن الدفاع من وراء سلوك الفرد لا يقتصر على تحقيق الكفاية لذاته وإنما تمتد لتحقيق الكفاية للآخرين وربما تقديمهم عليه.
إن مجرد إضافة (الحاجة إلى الدين) لمنظومة الحاجات عند ابراهام ماسلو لا يكفي إطلاقاً لإعطائه المنظور الاسلامي ـ وذلك للاختلاف في المفاهيم وهي أسس، وللتباين في المعايير التي تمثل البعد الأخلاقي للدافعية، وللتغاير في تحديد مفردات النموذج وفي طبيعة العلاقة بين هذه المفردات رأسياً وأفقياً