حاجتنا إلى الإيجابية:
إن إيجابية المسلم تتحقق على أرض الواقع بوعيه حقيقة الآخرة، وإدراكه قيمة الدنيا، ومعرفته حقيقة وجوده، وطبيعة رسالته، فينطلق لينادي الناس بالرسالة حتى وإن خذله الناس، وإن تكاتفت ضده قوى البغي، وتحالف عليه الأعداء، وتكالب عليه الخصوم، وتحزَّب عليه الجميع، وإن وجد نفسه وحيدًا فريدًا ضعيفًا في الميدان، ليس بذي سطوةٍ في قومه، وليس له نفوذٌ بين أفراد مجتمعه، فهو يسعى سعي الرجل الذي ﴿جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ (يس: من الآية 20) ينادي قومه ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس: من الآية 20)، مضحيًا من أجل رسالته.
إننا مطالبون مع الإيمان بهذا الدين، أن نكون أنصار الله ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾ (الصف: من الآية 14)، فالدعوة في حاجة إلى مَن يقول: نحن أنصار الله، لينال عز الدنيا، وسعادة الآخرة، وعز الدنيا ينال بصدق الإيمان ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية ١٣٩)، والتمكين في الأرض يتحقق بتسخير كل الطاقات أخذًا بالأسباب.
أولى مراحل النصر:
إن المسلم أول ما ينتصر إنما ينتصر على نفسه التي بين جنبيه، فإن انتصر عليها فهو على غيرها أقدر، وإن عجز عن ذلك فهو عما سواها أعجز، فالانتصار على النفس يدفع إلى البذل والتضحية والحركة والمشاركة الفعَّالة.. ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)﴾ (القصص) فهو رجلٌ مؤمنٌ يحمل في قلبه معالم الحق والرجولة والمروءة علم بالمؤامرة التي تحاك وتدبر لقتل موسى عليه السلام فجاء مَن أقصى المدينة ساعيًا ولم يأتِ متمهلاً لينصر حقًّا، وليذود عن مظلوم؛ ليرد عنه مؤامرة توشك أن تفتك به؛ لأن الحق إذ نما وترعرع في قلب الإنسان، فإنه يقوده إلى الله عز وجل لا يرشده إليه أحد، وإنما تمليه عليه فطرته السليمة؛ لذا يعمد الظالمون إلى تخريب فطر الشعوب، وإلى إرهاق تلك الروح الطيبة في نفوسهم فيعمدون إلى روح الكرامة والمروءة في نفوس الناس فيقتلوها ويزهقوها ويقيمون الحواجز والعوائق دون ذلك، ويشغلونهم بلقمة العيش، فلا يلتفت كل منهم إلا إلى خاصة نفسه وبيته، ويترك الحياة تمر أحداثها، ومشاغلها، ولكن هذا المنطق لا يعرفه أصحاب الحق، فما أن ينبلج النور في قلوبهم ويؤمنوا بدعوة الإسلام إلا وتحركوا كلٌّ بقدر ما يحمل من علم ويطيق من تكليف، وما يتحمل من جهد.. "بلغوا عنى ولو آية".
إنهم لا يرضون بالقهر بحالٍ من الأحوال، ولنا في أبي ذر الغفاري الأسوة، هذا الرجل المؤمن الذي توجَّه بقلبه وفطرته إلى الله قبل أن يؤمن بدعوة الإسلام، وأرسل أخاه إلى مكة ليستعلم له عن شأن نبي الإسلام، وحين لم يأتِ بما يشفي غليله إذا به يرحل بنفسه، ويذهب إلى مكة يتلمس الخير حتى ساقه قدره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشهد شهادة الحق، وما أن نطقت شفتاه بتلك الكلمات النيرات، إلا قال يا رسول الله والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، إنه رجل أتى من غفار وليست مكة موطنه، ولا عشيرة له فيها، يقول والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم، لا يحملها فحسب وإنما يصرخ بها، إنه يريد أن يدعو إلى الله بكل قواه وهو الغريب النائي عن الديار، البعيد عن الأهل، ولكنه لا يضع كل ذلك في تصوره فهو يرى استضعاف المؤمنين، ونبيهم صلى الله عليه وسلم معهم ويرى ما يُحمل عليهم من عذاب، ويحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يثنيه عما هو مقدم عليه رحمة به وشفقة، ولكنه يأبى ويخرج حيث يجلس الناس حول الكعبة، وينادي فيهم بشهادة الحق فإذا بالجالسين يستنكرون فعل هذا الغريب الذي جاء ليعلن تلك الدعوة التي يريدون خنق أصحابها، فيأتيهم هذا الغريب معلنًا الدعوة التي لا يريدونها بينهم فيجتمعون عليه ضربًا، ولا يبعدهم عنه إلا العباس- رضي الله عنه- بعد أن استحال إلى نصب أحمر بسبب ما سال من دمه، ويأتي في اليوم التالي ويفعل مثل ما فعل في اليوم الأول ولا يخلصه من أيديهم إلا العباس قائلاً لهم: يا قوم أتدرون من أين الرجل؟ إنه من قبيلة غفار التي تمر عليها قوافلكم، وهم قطاع طريق، فيحنئذٍ كفوا أيديهم عنه فحمل أبو ذر كلمة الحق وصرخ بها بين الناس، وما بين إسلامه وبين تلك الكلمات إلا دقائق معدودات، لم يمكث سنوات في رحاب المسجد ليتعلم وجوب الدعوة إلى الله وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليتلقى في ذلك الدروس والمحاضرات والخطب، وإنما حين شرح الله صدره لرسالة الإسلام وعلم أن عليه البلاغ أبى على نفسه أن يكون من الساكتين.