كيف تكون إيجابياً؟
المقصود بهذا العنوان:' كيف تكون إيجابيًا ' هو:كيف يكون الإنسان نافعًا.. كيف يكون الإنسان إيجابيًا في نفع المسلمين، وفي نفع إخوانه في القيام بما أوجب الله من الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كيف يكون إيمانيًا، فيتألم ويتحرق لما يراه من حال المسلمين، فيكون عنده من الهم ما يبعث لديه همه فيجعله ينطلق نحو عمل الخير بجميع وسائله وطرقه، لا يحول دون ذلك حائل. ، ونحن بحاجة ماسة لهذا، خصوصًا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، ونشط فيه أهل الباطل نشاطًا لم يسبق، ولهم من الإمكانيات ما لا يخفى حتى استطاعوا بهذه الإمكانيات أن يغزو المسلمين في بيوتهم. وهذا أمر لا شك أن ظاهره ونتائجه جلية واضحة، وهم والله يعملون على مدار الساعة والأهداف معروفة ومرسومة.
لكن ينبغي أن تنظر إلى هذا بأنه الزبد الذي يذهب جفاء لكن بشرط أن يوجد الحق، وأن يوضح الحق، والله سبحانه قضى أن الحق لابد له من رجال يحملونه مؤهلون لذلك. وانظروا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قام وحيدًا ينادي الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، أنقذوا أنفسكم من النار، ولم يكن معه أحد، فقام عليه الصلاة والسلام على تربية جيل ورجال يحملون معه هذه المسئولية التي حمله الله إياها، فأخذ يدعو الله، وجاء من حوله أصحابه وأتباعه، ولما اقبلوا إلى الإسلام راغبين نالهم من الأذى والمشقة، ومن التعدي والظلم، ومن الضرب والبطش الشيء الكثير حتى كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه أن يستنصر لهم، أن يطلب النصر:' أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا'رواه البخاري.
فكان عليه الصلاة والسلام يثبتهم بذكر أمثال الأمم السابقة وهذا منهج في القرآن، فمن الوسائل التي ثبت بها النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أخبار السابقين، وأنه له فيها سلف، وهو كذلك كان يقص فكان يقول لهم: [ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الارْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الاَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ] رواه البخاري. وربما قص لهم خبرًا طويلًا كما في حديث صهيب عند مسلم في خبر الغلام المؤمن، فهذا كان من وسائل التثبيت لهم رضي الله عنه، ولما اشتد الأذى أمرهم بالهجرة إلى الحبشة كل هذا ولم يأت شيء من القوة التي يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يدافع وأن يجاهد بها ذلك الباطل.
فكانت مرحلة تربية، حتى يكونوا جديرين بحمل هذا الحق، بحمل هذا القول الثقيل:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا[5]}[سورة المزمل]. وهكذا وجد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكانوا قد أهلوا ليحملوا هذا الحق، ويجابهوا به الباطل، فانطلقوا وفي فترة قياسية ما يقارب عشرين سنة عمَّ الإسلام الأرض تقريبًا في ذلك الوقت ودانت الدنيا بلا إله إلا الله.
فهذه إشارة إلى أن الحق لا بد له من رجاله يحملون، يجابهون به أهل الباطل، كما يقول سبحانه: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ[18]}[سورة الأنبياء].
وليس هناك حق أجلى ولا أوضح من الحق الذي في أيدي المسلمين: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمة لن تضل ما تمسكت به.
فهذا الذي نراه من الباطل كله يذهب لو قام أهل الحق بما يجب عليهم، فبينوه، لكن المشكل في أن الباطل يمتد، وأهل الحق كثير منهم لا يقومون بما يجب عليهم.. هناك ضعف، أو شك في الامكانيات، أو خوف من إمكانيات أهل الباطل. كل هذه الأمور ينبغي أن تنمحي من الأذهان، ولا يمنعنا كل ذلك أن نقوم لله بما يجب؛ لأن الخطر في القعود والسكوت:{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38]}[سورة محمد]. لا بد أن نري ربنا من أنفسنا أننا جديرون بحمل هذه الرسالة وتبليغها للناس، والقيام بما يجب علينا.
من عجائب قصة النملة:
ولا يحتقر الإنسان نفسه، فلو تأملنا القرآن؛ نجد الله ضرب لنا مثلًا عجيبًا يلفت أنظار الناس ففي سورة النمل ذكر قصة النمل مع سليمان، يقول سبحانه:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ[17]حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[18]}
من الجوانب التي تدفعنا إلى هذا الخير علم الإنسان بما يترتب من أجر وثواب على هذا العمل العظيم، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ]رواه الترمذي. انظر كم المسافة سيد ولد آدم وبين أدناكم.. هكذا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم المقارنة.
و ليس المقصود مجرد العلم الذي لا ينفع صاحبه، فإن يقول: { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]} [سورة العصر] . فهذه أربع قضايا مهمة في هذه السورة مترابطة بعضها ببعض، لابد من القيام بها حتى تنجو من الخسارة { وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]} [سورة العصر] . فالمقصود أثر العالم على الأمة، أثره على الناس، ولن يكون له ذلك الأثر إن لم يكن عاملًا أولا بعلمه.
فالإنسان إذا علم بالأمور المترتبة على هذا العمل العظيم فإن ذلك يكون سببًا في أن يستهين بالصعاب التي ربما واجهها وهو يعمل هذا العمل، عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ]رواه الترمذي. فأي فضل هذا!
وهذا التعليم أحيانًا تقوم به بنفسك، وأحيانًا تكون سببًا في إيصال العلم والخير إلى الغير وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]رواه مسلم. فلماذا لا تكون دليل خير؟
فقد يدعو الإنسان إلى شيء من الخير إعذارا إلى الله، ولكن قد يضعف الإنسان فلا يقوم بهذا العمل، فيلتقفه إنسان يسمع منك، فيقوم بهذا العمل أو الشيء الذي دعوت إليه، فيكتب لك الأجر كما عمله هو. بل الأمر أعظم من ذلك، ربما تكلم إنسان فاهتدى بسبب هذه الدعوة رجل أو امرأة، ثم أصبح هذا الإنسان داعية، أو ربما أصبح مجاهدًا في سبيل الله، أو ربما قتل شهيدًا في سبيل الله، فما من خير يحصل عليه إلا كتب لك منه مثله؛ لأنك أنت الذي دللته إلى الخير.
وهذا والله ما ينبغي أن نتنافس فيه، وأن تسعى في تحصيله، وأن يكون أحد الأهداف في حياه الإنسان، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، لقد كان من أهم المهمات في حياته عليه الصلاة والسلام إنقاذ الناس من الظلام، هداية الناس { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا[6]} [سورة الكهف].
عائشة رضي الله تعالى عنها وقع في نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مر به شدة كما مر به يوم أحد، فأخذت تسأل هل مر بك شيء أشد مما في يوم أحد، فذكر أن لا إلا ما حصل في الطائف، وليست القضية أنهم رموه بالحجارة، إنما أكثر ما أثر فيه عليه الصلاة والسلام هو عدم قبول دعوته، أثر فيه أنه لا يجد أرضا خصبة لـ لا إله إلا الله.
يقول بعض الصحابة:'رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لعشر سنين وهو في مكة يعرض نفسه على القبائل في المواسم'.
يمشي فيعرض عليهم دين الله لا يمل ولا يكل في كل مكان حتى في الأسواق.
وهو لنا أسوة، وهذا الدين أمانة في أعناق من بعده، وهكذا تسلسلت هذه المسئولية حتى وصلت إلينا، فإما أن نقوم بها كما ينبغي، وإلا فنحن نخشى على أنفسنا أن نخسر قبل غيرنا.
وصلى الله على سيد الخلق محمد بن عبد الله وصحبه أجمعين