بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم ثريا
قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾ (الأعراف).
عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ.
قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾ (الأعراف)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ (1).
يقول الإمام القرطبي- رحمه الله: هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾: دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾: فيه صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾: فيه الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة. والأفعال الرشيدة (2).
وأمر الله نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق، أمر لأمته بنحو ما أمره الله به، ومحصلها الأمر بحسن المعاشرة مع الناس، وبذل الجهد في الإحسان إليهم، والمداراة معهم والإغضاء عنهم(3).
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال: حتى أسأل فصعد، ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك"(4).
3- لتكن بطانتك من أهل القرآن: بطانته المسلم من أهل القرآن، ومن ذوي العقل والحجا حتى يسترشد برأيهم، ويرشدوه إن أبهم عليه، ولا يبالي بكبر السن أو صغره، عن أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعًا: "استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا"(5).
4- الاعتصام بالكتاب والسنة: إن واجب المسلم أن يتخلق بآيات القرآن، ويطبق ما جاء به من أحكام، تآسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن، وتأمل وصف سيدنا عمر رضي الله عنه وكان وقافًا عند كتاب الله.
مواقف مشرقة من العفو:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ قَالَ "يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً"(6).
- وموقف آخر في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَا إِنَّ مَلَكاً بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ. قَالَ: لاَ بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ"(7).
- في مجلس الحسن البصري: يروى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن- رحمه الله- فكان المسبوب يكظم ويعرق، فيمسح العرق، ثم قام، فتلا هذه الآية: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾ (الشورى) فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون(8).
- ميمون بن مهران: روي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي استعمل قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 134)، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى (9).
-----------------
1- أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) 9/195 (4642).
2- تفسير القرطبي 7/218.
3- فتح الباري 13/259.
4- الدر المنثور 3/280.
5- الدر المنثور 5/708.
6- أخرجه أحمد 2/436، والبيهقي في كتاب الشهادات، باب: شَهَادَةِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ 10/236 (20885).
7- أخرجه أحمد 5/445، وقال الهيثمي 7/391: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة.
8- القرطبي 16/30.
9- تفسير القرطبي 4/133.