بقلم: د. محمد منصور
أكثرها غالبًا لغة اللسان، بالحسنى، وبالحكمة؛ أي بما يناسب المنصوح قولاً وعملاً وزمانًا ومكانًا وبيئةً وثقافةً ونحوها.. لكن إن افتقدها الناصح، أو كانت الظروف والأحوال والأشخاص غير مناسبة لها، فهناك ولا شك صور أخرى غيرها متعددة مؤثرة يمكنه أن يختار المناسب منها، بعضها مباشر والآخر غير مباشر؛ ليتمكن من خلالها أن ينصح ويؤدِّي فرض النصيحة بالخير والسعادة على أفضل وجه ٍمُمكِن لله وللإسلام؛ ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، منها مثلاً: "النصيحة الصامتة بالقدوة"، و"النصيحة بنظرات العيون"، و"النصيحة بهمسات القلوب والمشاعر"، و"النصيحة بلمسات الأيادي"، و" النصيحة بالإشارات".. وما شابه هذا.
وكلها أشكال ولغات مفهومة لدى جميع الخلق، ويتقبلونها بسهولة؛ بل بشغف وحتى لو لم تكن كاملة الإتقان، حينما يرون أنها لمصلحتهم ولسعادتهم؛ بحيث لو تعثر اللسان، أو لم يكن استخدامه مناسبًا حسبما يُقدّره مَن ينصح، انطلقت هي تنشر النصيحة والدعوة والخير والسعادة.. وكلها قد أجادها واستخدمها الرسول- صلى الله عليه وسلم- من قبل، وكلها داخلة في معاني حديثه-صلى الله عليه وسلم- المعروف: "الدين النصيحة..." (جزء من حديث رواه مسلم)، وكلها لها ثوابها العظيم وتعفي من الإثم عند فعلها.
** فالنصيحة بالقدوة:
هي النصيحة الصامتة! وهي تكون في مواقع الحياة وأعمالها، وتأثيرها هائل وعظيم؛ لأن العقل من أهم صفاته التي برمجه خالقه عليها دوامُ البحث عن الخير والسعادة، فإذا ما وجد ذلك أمامه مُجَسَّدًا، دَفعَه هذا إلى التفكير فيه والاقتناع به، فيسهل عليه تقليده وفِعْل مثله؛ ليحقق ما يبحث عنه الإنسان من خيره وسعادته.
وهي أقوى صور النصيحة، وقد تكون أثوبها؛ لأنَّ غيرها قد يحدث لها أحيانًا خطأ في فهمها أو تأويلها أو تطبيقها، أما لغة الأفعال والتصرفات، لغة القدوة، فواضحة لا لبس فيها، سهلة لا صعوبة في تنفيذها، لا تحتاج غالبًا إلى سؤال أو استفسار أو استنتاج أو تأويل، بل تُيَسِّر التطبيق العملي الفوري السريع لكل ما هو أخلاقيّ خيْريّ مُسْعِد.
لقد تعلم الصحابة الكرام من الرسول- صلى الله عليه وسلم- من خلال القدوة الصامتة المُعلمة الأخلاق كلها التي تسعدهم في دنياهم ثم آخرتهم:
* تعلموا النظافة وطيب الرائحة وحسن المظهر.. كما يقول أنس- رضي الله عنه- مثلاً: ".. ما شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-..." (جزء من حديث رواه البخاري).
* وتعلموا البسمة والبشاشة.. كما يقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه مثلاً: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه الترمذي).
* وتعلموا العمل والإنتاج وإتقانهما وتطويرهما.. منذ أن رَأوْه صلى الله عليه وسلم راعيًا ثم تاجرًا ثم رئيسًا حاكمًا عادلاً متواضعًا متشاورًا.
* وتعلموا التعاون والتكامل والتحاوُر وحُسْن تحمّل المسئوليات.. كما تقول خديجة رضي الله عنها عمَّا رأته منه صلى الله عليه وسلم: "إنك لَتصِلَ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (جزء من حديث رواه البخاري).
* وتعلموا الكرم والتوكل.. كما يقول أنس رضي الله عنه عمَّا رآه منه صلى الله عليه وسلم: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر" (رواه مسلم).
* وتعلموا الوفاء وصفاء القلوب.. من أدائه صلى الله عليه وسلم للأمانات عند هجرته حتى لمن آذوه وأخرجوه.
* وتعلموا الشجاعة والإقدام.. كما روت السيرة عنهم أنهم كانوا إذا حمي الوطيس في المعركة احتموا بشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وتعلموا منه الحلم والصبر والصفح وحفظ اللسان وعفته.. حينما جذبه صلى الله عليه وسلم أعرابي غليظ من ثيابه حتى أثرت في عنقه صلى الله عليه وسلم- قائلاً له بغلظة: "مُرْ لي من مال الله الذي عندك"، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء" (رواه البخاري ومسلم).
وهكذا تعلموا الأخلاق كلها، في شتى شئون الحياة، فسعدوا وأسعدوا كل مَن تعامَل معهم، بل الكوْن كله بمخلوقاته كلها.
** والنصيحة بنظرات العيون:
قد تكون بإحدى الصور الآتية على سبيل المثال لا الحصر:
* نظرة الحب والحنان والسرور والسعادة والاستبشار والتفاؤل والأمل: من أجل بدء التواصل مع المنصوحين، ومن أجل جذبهم؛ ليكونوا مثله مستمسكين بإسلامهم، يعيشون به حياتهم فيسعدون فيها ثم في آخرتهم.. فقد كان الصحابة الكرام يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ".. كان يُقبِل علينا كأنَّ وجهه فلقة قمر.." (جزء من حديث رواه الطبراني).
* نظرة الاستشارة : طلبًا للتشاور والاستفادة بالآراء والخبرات.. كما نظر- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر إلى المهاجرين ثم إلى الأنصار أن أشيروا عليَّ.
* نظرة التعجب: من أجل مساعدتهم على التصويب.. كما نظر صلى الله عليه وسلم متعجبًا من شدَّة الأقرع بن حابس الذي تعجَّبَ من تقبيله صلى الله عليه وسلم لحفيده الحسن رضي الله عنه" (روي القصة البخاري).
* نظرة التوجيه أو التحذير: من أجل استمرارهم على الصواب.. فقد كان الحسن والحسين يلعبان وسط تمر من الصدقات عند الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فأخرجها مِن فِيه..." (جزء من قصة رواها البخاري).
* نظرة الغضب: عند اقتراف السوء من أجل مراجعتهم أنفسهم.. فعن عائشة- رضي الله عنها- أنها أحسَّت ذات مرة بغيرة في قلبها لما أهدت إحدى زوجات الرسول- صلى الله عليه وسلم- له قصعة بها طعام فرَمَت بها، فنظر إليها- صلى الله عليه وسلم- فعرفت الغضب في وجهه، فتداركت خطأها وتراجعت للخير والصواب وقالت: ".. وما كفارته يا رسول الله؟.. " (روي القصة كاملة أحمد).
* نظرة الشفقة أو العتاب: خوفًا عليهم من العقوبة من أجل منعهم من الخطأ إذا وقعوا فيه والأخذ بأيديهم للصحيح سريعًا.. ففي حديث كعب بن مالك- رضي الله عنه- والذي كان من الثلاثة الذين تخلفوا عن المسلمين في غزوة تبوك يقول: "... كنت أصلي قريبًا منه- صلى الله عليه وسلم- وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني" (جزء من قصته التي رواها البخاري ومسلم).
* نظرة الفرح: عند استجابتهم للخير؛ من أجل تثبيتهم وتشجيعهم لفعل المزيد منه.. قال الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": "فصل: في هديه- صلى الله عليه وسلم- في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه": "دمعة السرور باردة والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين، ولهذا يُقال لِمَا يَفرح به: هو قرة عين، ولما يُحزن هو: سخينة العين".
* نظرة التشجيع: من أجل حثهم على المزيد من الخير.. كما فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- مع الغلاميْن المجاهديْن: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء، اللذيْن ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه في غزوة بدر، فأتياه- صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيكما قتله؟"، فقال كل واحد منهما: "أنا قتلته"، فنظر في السيفيْن فقال: "كلاكما قتله" (رواه البخاري).
* نظرة التفكر والتدبر والاعتبار والإصلاح: من أجل تدريبهم على اختيار أنسب وسائل تغيير الخلل فيهم وفي مجتمعهم.. كما يفهم ضمنًا من قوله- صلى الله عليه وسلم-: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان مَن دخلها، فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء" (رواه البخاري ومسلم).
* نظرة التوضيح والشرح: من أجل عونهم على حسن الفهم والعمل.. فعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جلوسًا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم).
* نظرة المسئولية: من أجل تحفيزهم ودفعهم لها.. فقد عرض أعرابي للنبي- صلى الله عليه وسلم- فأخذ بزمام ناقته، فقال: يا رسول الله، أخبرني بأمر يدخلني الجنة وينجيني من النار، فنظر- صلى الله عليه وسلم- إلى وجوه أصحابه وقال: "لقد وُفق أو ُهِدي، لا تشرك بالله شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم" (رواه ابن ِحبَّان).
** والنصيحة بهمسات القلوب والمشاعر:
هي لغة الفطرة ونصيحتها، وهي التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتشعره بالأمان والثقة، وأنَّ الناس سيأخذون بيد بعضهم البعض لكل خير وسعادة وينشرونهما، ويحفظون أنفسهم من كل شر وتعاسة ويمنعونهما، كما يُفهَم ضِمنًا من قوله- صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارَف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (رواه البخاري ومسلم).. قال الإمام النووي في كتابه "شرح صحيح مسلم": "قال الخطابي:.. يميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار...".
** والنصيحة بلمسات الأيادي:
هي نصيحة مؤثرة سريعة الوصول؛ لأنها مصحوبة بتحريك الأحاسيس والأفكار من خلال التلامس الحنون المُعَبِّر.. فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليصلي، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتي أقامني عن يمينه.. (جزء من كلامه رواه مسلم).
** والنصيحة بالإشارات:
هدفها تبيين الإرشادات والمعلومات وتثبيتها، وقد تشمل:
• استخدام الأصابع: كما أشار الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأصبعيه مؤكدًا ملازمة كافل اليتيم له في أعلى درجات الجنات من عِظم ثوابه؛ تشجيعًا على كفالته (روى مسلم هذا الحديث).
• الرسوم التوضيحية: فقد كان- صلى الله عليه وسلم- مثلاً يخطُّ خطوطًا تعبِّر عن الاستقامة، وأخرى عن الانحراف تحفيزًا على الخير والسعادة في الداريْن، وتنفيرًا وتحذيرًا من الشر والتعاسة فيهما (روى الحديث الحاكم وغيره).
• التبسم والضحك: فلما تحدَّث الرسول- صلى الله عليه وسلم- مثلاً عن آخر مَن يدخل الجنة فيجدها ملأى، فيعود لله تعالى متعجبًا من عدم وجود مكان له، فيقول له: "اذهب فادخلها وإن لك مثل عشرة أمثال الدنيا".. ضحك- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه.. تعبيرًا عن حبه وتحفيزه لمن يعمل لتحصيل سعادة آخرته وأفضال ربه فيها (روى القصة البخاري).
• تعبيرات الوجه: فقد رأى الرسول- صلى الله عليه وسلم- نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمرَّ وجهه، فجاءت امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خلوقًا.. (جزء من حديث رواه ابن ماجه).
• طأطأة الرأس: فقد طأطأ- صلى الله عليه وسلم- رأسه الكريم؛ إعلانًا عن عدم قبوله الزواج من المرأة التي أرادت أن تهب نفسها له (روى القصة البخاري).
• الإعراض والصمت: لإظهار الحزن أو التقصير للتحفيز والتعويض والتصحيح.. فعن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوَّذ منها.. (جزء من حديث رواه البخاري).
ثم هناك بالطبع بعض اللغات المُحَبَّبَة المُنتشرة للتناصُح، والتي يمكن استخدامها أيضًا ويفهمها الجميع، مثل:
• لغة الرياضة: والتي يمارسها الجميع على اختلاف ألسنتهم، والتي يمكن من خلالها وبعدها أن يتعلموا أخلاق الجديَّة والتحابّ والنظام ونحوه؛ مما هو من صميم الأخلاق الإسلامية.. قال الإمام القرطبي: "قال ابن العربي: المسابقة شِرعة في الشريعة وخصلة بديعة.. وقد فعلها- صلى الله عليه وسلم- بنفسه وبِخَيْله، وسابَق عائشة- رضي الله عنها- على قدميه..".
• لغة الفنون والموسيقى: الحلال منها المثير للهمم والنخوات لا للفتن والشهوات، وهي أيضًا يفهمها الجميع على اختلاف ألسنتهم، فهي تجمعهم جميعًا على عمل خير أو تجهزهم وتنشط نفوسهم له، ومن خلالها وبعدها يمكن اكتساب كل خير، والانطلاق نحوه؛ لتحقيق كل سعادة.
إضافة بكل تأكيد إلى سرعة النصائح وجودتها وتأثيرها من خلال وسائل الاتصال الحديثة، مثل: الإنترنت والفضائيات ونحوها، مما قد يُستحدَث مستقبلاً.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أنَّ هناك فرقًا بين النصيحة والنقد.. فلقد تعارَف كثيرٌ من الناس على أنَّ النقد في الغالب هو لإظهار العيب! إمَّا لإصلاحه، أو قد يكون لفضحه وفقط، على حسب النوايا، لكنَّ النصح في الإسلام، أي النقد الإسلامي، يعني التقييم العادِل البنَّاء، أي إظهار الإيجابيات والسلبيات، إعلان الأولي والبدء بها للتشجيع، كما هو الحال دائمًا في القرآن الكريم وفِعل الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وستر الثانية أو إعلانها بصورة عامة كما كان يفعل- صلى الله عليه وسلم-؛ حيث يقول كثيرًا: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.." (جزء من حديث رواه أبو داود).
وذلك للستر الذي يُعين دومًا على التصويب، بينما الفضح يُضعِف غالبًا الحياء الفطري، وقد يؤدي إلي مزيد من السلبيات؛ حيث قد ضَعُف الحاجز الذي يمنع من الخطأ.
إضافة إلى أن يكون الكلام عن السلبيات بصدق، وبهدف الإصلاح، وبأفضل أسلوب ٍوكلمات، وفي أنسب الأوقات والأماكن.. وهذه هي أحسن الحكمة والموعظة تفسيرًا وتطبيقًا، كما جاءت في قوله تعالي: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
كذلك نشير إلى الفرق بين النصيحة وإبداء الآراء وتعددها.. فمن حق المنصوح ألا يأخذ برأي الناصح إذا لم يقتنع به، ويحتفظ برأيه هو لنفسه ويعمل به؛ لأنه يراه مناسبًا لواقعه ولظروفه وأحواله ونشأته وثقافاته ومرجعياته، ما دام في دائرة الحلال، ويشكر الناصح، وله ثوابه.
وعلى الناصح هنا أن يُفرِّق بين النصيحة حين تكون مُسْتَحَبَّة، أو مفروضة، أي يُثاب بفعلها ويأثم بتركها، وهي التي تكون أساسًا إذا فعل المنصوح حرامًا مؤكَّدَا معلومًا لا رأي آخر فيه بعدم حُرْمَته، أي ضارًّا مُتعِسًا، فتكون فرضًا عليه حينئذ يأثم إذا لم يفعلها، إلا إذا أجَّلها لسبب ما حتى يأتي أنسب وقت للاستجابة لها ولتنفيذها؛ لتحقيق أعظم نتائجها.. ويُفرَض على المنصوح وقتها العمل بالحق والخير فيها تدريجيًّا قدْر استطاعته ليسعدَ وإلا أثِمَ وتعِس.
أمَّا إذا كانت النصيحة للتحسين والتطوير، فأداؤها ليس بفرض، وإنما يُستحبُّ، أي يُثاب إذا فعَل، ولا يأثم إذا لم يفعل- بل قد يأثم إذا أدَّاها في وقت غير مناسب أو بصورة غليظة، لضرر ذلك- والمنصوح في هذه الحالة مِن حقه أن يأخذ بالنصيحة أو يتركها، لأنَّ رأيه ورأي ناصحه كلاهما في دائرة الحلال، وكلاهما خير، وكلاهما عَرْض لما هو أصْوَب وأسعد في موقف وتوقيت ما، وهما في إطار الحسَن والأحسَن، والجيد والأجود، والمناسب والأنسب، لا في دائرة الحلال والحرام، أي الصواب والخطأ (برجاء أيضًا مراجعة مقالة: "الحق يتعدد" لمزيد من التفصيل والتوضيح).
مما سبق يتبين لك أيها الداعي الكريم إلى الله والإسلام أن النصيحة لا يمكن بأي حال أن يعوقها عائق؛ لأنه إن عجزت الكلمات نطقت القلوب والعيون والإشارات والتصرفات؛ وذلك حرصًا من الإسلام على أن يظل التناصح قائمًا دائمًا بين البشر؛ حتى يستمرَّ الخير ويكتمل، وتستمر السعادة وتكتمل.. كما أنه ليس من الضروري أن تكون النصيحة باللسان فقط، وإلا كانت باطلة أو كان مَن يؤجلها لأنسبَ الأوقات وأنفعها وأكثرها تأثيرًا وأقلها ضررًا أو يستخدم غيرها آثمًا!!
وسيكون لك ثواب كل هذا، كما يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حديثه المعروف: "مَن دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله" (رواه مسلم)؛ حيث إن الحديث لم يحدد أنَّ الدلالة عليه هي بلسانه فحسب، وإنما بكل ما هو مُمكن ومُتاح ومناسب ومقبول ومؤثر؛ لتسعد ويَسعد الجميع في الداريْن.