بقلم: فدوى العجوز
قال لي ابني (البالغ من العمر ثماني سنوات): أتعرفين يا أمي عندما أدخل الجنة ماذا سأطلب فيها؟ قلت: ماذا ستطلب؟ قال: سأطلب بيتزا كتيييييير جدًّا.. فضحكت معه، ثم جلسنا نتحدث عن الجنة وأحكي له ماذا ينتظرنا في الجنة من نعيم ونِعَم، ثم انصرف ابني وانتهى الموقف.
وجلست أنا مع نفسي واستعدت كلامي لابني وأغمضت عينيَّ، وأخذت أردِّد في نفسي: الجنة.. ياااااه!!! متى الجنة؟ التي لا تعب فيها ولا نصب.. الجنة التي فيها النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول.. كلمة السر التي بها تزول الهموم والأوجاع للأبد، هذه الكلمة التي طالما استخدمها رسول الله لشحذ الهمم وتشجيع الصحابة رضوان الله عليهم لعمل المستحيل.
وجلست أناجي ربي وأقول في نفسي: يا رب، متى هي الجنة؟ يا رب، زاد شوقي إليها فلا تحرمني منها، يا رب، كيف هي الجنة؟ وما شكلها؟ وانطلقت روحي سابحةً في عالم الغيب، وارتفعت وارتفعت، فرأيت الجنة بعين قلبي، رأيتها كما يرى الجائع الطعام في منامه، ويستمتع بلذته وفمه فارغ، رأيتها رؤية المشتاق.
وشعرت بضربات قلبي تزداد، والدم يتدفق في عروقي، والدموع تنهمر من عيني، دموع الفرحة بنعيم الله وفضله وشكره لعباده الذين هو غنيٌّ عنهم أجمعين، وعشت في ذلك لحظات هي عندي بالدنيا وما فيها.
أصبحت الآن في الجنة.. نعم دخلت الجنة.. أضع أول قدم لي داخلها ولا أصدق ما أراه، إنها .. إنها أجمل من أن توصف..لا نهاية لها.. فإذا نظرت في كل اتجاه لا تنتهي على مرمى البصر.. أنا الآن أمشي في الجنة.. ماء رقراق يجري تحت قدمي، وأمشي على شيء كأنه حصى ناعم يتلألأ!!! إنه لؤلؤ.. أنا أمشي على اللؤلؤ... سبحان الله!!
أكاد لا أصدق هذا الجمال.. المياه تنحدر في شلالات كثيرة.. وأهل الجنة يسبحون فيها.. والأنهار تجري في كل مكان.. ولكنها ليست أنهار من ماء، هذا نهر لونه أبيض وهو نهر اللبن.. وآخر لونه ذهبي وهو نهر العسل.. وهذا نهر الخمر الجاري، صدق الله العظيم.. صدق الله العظيم.. إن ما قرأته في القرآن وجدته، ولكن أجمل بكثير مما تخيلته.
وأما أشجار الجنة.. وما أدراك ما أشجارها؟!.. أشجار كثيفة عالية يكاد لا ينتهي ظلها، وألوان الزهور على الشجر حمراء وصفراء وقرمزية.. يا لجمالها!! أشجار وفواكه لا حصر لها من أنواع.. وأشكال.. وألوان.. ورائحتها الجميلة أشمها بعمق.. حتى تتغلغل رائحتها في كل كياني، والفواكه تتدلى لمن ينظر إليها ويشتهيها.
وأرى أطفالاً كاللؤلؤ المنثور.. اللؤلؤ في ضيائه وجماله ونقائه وطهره وبراءته، يطوفون على أهل الجنة وتعتلي وجوههم بسمة جميلة، ومعهم شتى أنواع الطعام والشراب في أوانٍ من فضة وذهب.
وأرى للجنة ثمانية أبواب، على كل باب زمرة من عباد الله، باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الريان للصائمين، وباب الفرح للذين يدخلون السرور على قلوب المسلمين، وباب الوالدين للذين يبرُّون والديهم، وباب الضحى للمحافظين على صلاة الضحى، وباب التوبة.. وأرى أناسًا يلبسون تيجانًا كأنها الشمس في نورها.. إنه تاج القرآن، وهذا يلبس تاج الوقار..
وأرى الكباري المعلقة والبيوت الصدفية المعلقة في الهواء، التي تجري من تحتها الأنهار، أمشي في الجنة أسير على اللؤلؤ وتحت قدمي الماء المسكوب، أبحث عن أحد أعرفه فيها.. اشتقت لزوجي وأولادي ووالديَّ.. ما هذا؟! إنهم قادمون، كلٌّ على سريره الطائر.. يقتربون.. إنهم أهلي وزوجي وأولادي.. مرحًا مرحًا.. الحمد لله الذي جمعنا في نعيم الجنة، كل واحد منا يقبِّل الآخر ويحتضنه ويهنِّئه بالجنة الآن اكتملت فرحتي بالجنة، نعم نحن في الجنة التي طالما حلمنا بها وتمنيناها واشتقنا إليها وتحدثنا عنها.. وأخيرًا إنها الجنة.
ألتفتُ يمينًا ويسارًا أبحث عنهم..عن إخواني وأخواتي الذين أحببتهم في الله واجتمعت معهم على طاعته وساعدوني على طريقه.. إنهم هناك كل على سريره.. يسلم بعضنا على بعض، ويهنئ بعضنا بعضًا، الحمد لله.. الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة نتبوَّأ منها حيث نشاء.. وهذه المنابر من نور محلقة في سماء الجنة للمتحابين في الله.. يااااااه ما أجمل الجلوس عليها والنظر إلى الجنة من فوقها!! وهذه الطيور الرائعة.. إنهم الشهداء يطوفون في الجنة ويمرحون حيث يشاءون.
والآن لا أستطيع أن أخفي عليكم إخوتي وأخواتي أن كل ما وصفته وتخيلته من وحي خيالي وتصوري وإحساسي بالجنة، والآن عدنا إلى الدنيا.. يا لحقارتها وسوءتها؟! فالدنيا بالنسبة للجنة كأنها تفاحة متعفنة بجوار بستان فواكه، أو كأنها ثوب بالٍ قديم متمزق بجوار أثواب من حرير أخضر ناعم، أو كأنها بيت متهدم يسكنه العناكب بجوار قصر من ذهب وفضة.. هكذا هي الدنيا.. قصيرة فانية لا قيمة لها، لا تستحق أن نحزن من أجلها أبدًا مهما فاتنا فيها.
أيها المسلم الغريب في دنياك.. القريب الرحيل إلى بيتك.. كلما تعبت من سفرك في الدنيا فأغمض عينيك وابتسم واحلم بوطنك وبيتك، واجتهد حتى تلقاه وأنت على درب نبيك مطمئنًّا.
هكذا تخيلت أنا الجنة، فازددت شوقًا إليها، فكيف تخيلتها أنت؟! حدث نفسك بما ينتظرك فيها إذا صبرت على طاعة ربك واجتنبت معصيته، حدث أولادك وأصدقاءك وأهلك.. تحدثوا عن الجنة حتى لا تنسوها، وتصبَّروا على الدنيا وما فيها من بلايا وابتلاءات، وإلى لقاء قريب، يا رب ألقاكم في الجنة.. آمين.