بقلم: د. حمدى فتوح والي
ليس منا من أحد إلا ويتمنى أن يرى دولة الإسلام قائمة، وخلافة المسلمين عائدة، ووحدة المسلمين تضمهم في كيان واحد وتحت راية واحدة، وهي أمنية غالية وغاية محمودة، ومقصد نبيل، بل إن السعي إليها والعمل من أجلها يعد عبادةً من أجل العبادات؛ لكن الأمنيات وحدها مع إهمال الوسائل، وعدم التحقق من صحة المقدمات لا يصل بنا أبدًا إلى تحقيق ما نريد.
ومهما كان القصد حسنًا والرغبة عارمة في استعجال الاستمتاع بالعزة والتمكين؛ فإن ذلك كله لا يبرر إغفال تلك الوسائل، ولا يعطينا حق القفز فوق الثوابت المشروعة، وتخطي الضروري من الأمور.
ومن يتأمل في كتاب الله سبحانه وتعالى يدرك حقيقة واضحة جلية تؤكد قانونًا لا يتخلف؛ وهو أن الله أقام كونه على سنة النمو والتدرج والاكتمال، وأن هذه السنة مطردة في حياة البشر، يقول الخالق الحكيم سبحانه:
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) (النحل)، ويؤكد الحق سبحانه هذه المرحلية وهذا التدرج بقوله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)) (الروم)، وقد كان الحق سبحانه قادرًا أن يخلق الإنسان بشرًا سويًَّا منتجًا.
وفي مجال الكون، أخبرنا سبحانه وتعالى بهذا التدرج والنمو في قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) (فصلت).
فأنت تلاحظ أن الخالق الحكيم سبحانه قد خلق الأرض في يومين ثم جملها وأعدها للسكنى وقدر فيها أقواتها، وأرسى فوقها جبالها في مرحلة تالية، ثم خلق السموات السبع، وأوحى في كل سماء أمرها. بعد أن (بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)) (النازعات).
وكل هذه المراحل متوالية لا يمكن لواحدة أن تسبق الأخرى. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية 88).
وما كان الحق سبحانه وهو القاهر فوق عباده، بحاجة لهذا التدرج، وهو القادر على أن يخلق السموات والأرض بكلمة "كن"، لكنه الناموس الإلهي الذي أراده الله سبحانه ليقيم عليه أمور الحياة، وليعلمنا سبحانه أن كل شيء في الكون ينمو وينتقل من حال إلى حال، حتى يتم له الكمال، فإذا اكتمل آذن بالضعف وجنح إلى الزوال.
وما يقع في عالم الأحياء والجمادات يقع مثله في عالم المشاعر والمعنويات، وكما ينمو إنسان الجسد بالطعام والشراب، ينمو إنسان الروح بالأذواق، فيشرق بالأمل، ويهفو إلى الأمن، ويطمئن بالإيمان. (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية 28).
وإذا كان الناس في عصرنا هذا قد وقعوا صرعى الإدراك الحسي فلم يعد لهم من رائد أو موجه، يرتاد لهم الغايات، ويحدد لهم المقاصد إلا أهواء الحس ورغباته الطائشة، فإن مهمة الدعاة إلى الله ينبغي ألا تتغافل عن هذا المرض، فتنزل المنكر والجاحد منزلة التقي العابد.
إنما لا بد أن يطمئن الدعاة إلى الله إلى أن نداءهم يصادف قلبًا خاشعًا وعقلاً واعيًا ووجدانا مشبوبًا بالحب معمورًا بالإيمان، وإلا فإنهم يصرخون في وادٍ، وينفخون في رماد.
إن الداعية مهما أوتي من ألوان الفصاحة وروعة البيان لن يستطيع أن ينفذ إلى أعماق من يدعوه، إذا كان القلب مشغولاً بأهوائه غارقًا في أودية دنياه (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)) (النمل).
"إن التعبير القرآني يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة، حالة جمود القلب، وخمود الروح وبلادة الحس، وهمود الشعور، فيخرجهم مرة في صورة الموتى يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يسمعون لأن الموتى لا يشعرون! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي، لأنهم لا يسمعون! ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم، لا يرون الهادي؛ لأنهم لا يبصرون! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور!" (1).
يقول الحكماء: "إنك تستطيع أن تأخذ حصانك إلى النهر، لكنك لا تستطيع أن تكرهه على الشرب منه".
والداعية يستطيع أن يسمع الناس ما يريد، لكنه لا يملك القدرة على فتح قلوبهم لما يقول، إلا بأن يدير في أقفالها مفاتيح الهداية، وهذه المفاتيح لا يملكها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي التي أودعها قرآنه المكي.
وحتى يستطيع الداعية أن يخرج القلب من حالة الموات إلى الحياة، ومن حالة الإدبار إلى الإقبال. فلا بد له أن يبدأ بما بدأ به الله سبحانه وتعالى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بدأ مع رسولنا بالقرآن المكي، ومن خصائص القرآن المكي أنه يأمر العقيدة، ويقف طويلاً أمام حقيقة الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من مشاهد البعث والحشر والصراط والميزان والحوض والكرسي والجنة والنار، معتمدًا في تقديم هذه الحقائق، على ما يشبه الطرقات العنيفة القوية، العالية المتوالية، في إيقاع صاخب وجرس سريع، وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب، وعلى مشاهد كونية يهز بها أعماق النفوس.
إن الله تبارك وتعالى الذي خلق القلوب وأودعها الفطرة الإيمانية هو الذي ينزل عليها آياته فتهتز وتشرق وتمتلئ بالنور، وتحيا فيها مشاعر الإيمان واليقين: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)) (المائدة).
ولهذا كان شأن المؤمنين المهتدين بالقرآن أن يوصفوا بالحياة وبالنورانية معًا، لأنهم انتصروا على الموت وعلى الظلام جميعًا، يقول تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) (الأنعام).
"إن الله عز شأنه لما أنزل من السماء ماء فجعل منه كل شيء حي في عالم المادة، اقتضت حكمته أن ينزل للأحياء الروحية، ما به حياتها وغذاؤها، وكل إنسان يتألف من جسم ظاهر وسر باطن، فما كان من الحكمة، واطراد نظام الخليقة، أن ينزل الله للأجسام ما به تحيا، ثم يهمل شأن الأرواح الذي هو كل شيء في هذا الكائن الحي، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذا الذي أنزله الله للقلوب والأرواح، مقابل الماء الذي أنزله للأبدان هو الوحي الذي أنزله على رسله من لدن آدم أبي البشر إلى خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي هو روح القلوب وسر حياتها، فإذا لبسها وتسرب فيها حيت واستنارت وأشرقت، وأدى لها ما يؤدي الماء للأجسام" (1). وهذا ما نفهمه من قول الخالق الكريم سبحانه (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)(الشورى: من الآية 52).
إن من أخطر ما يقع فيه الدعاة اليوم هو غياب الفقه بواقع من يدعونهم؛ فيظل يرفع عقيدته بالتحذير من المذاهب الأرضية، والاتجاهات العلمانية، ويظل يحشد لقضيته ما استطاع من الأدلة، وكل ما يمكنه من الشواهد والبراهين. واثقًا أنه بهذا الجهد المضني، وهذا الإعداد الدقيق قد بلغ من نفوس من يدعوهم أبلغ مدى واحتل منها أعمق مكان، وما أشد حسرته، وأمرَّ لوعته عندما يرى أحوال هؤلاء الذين اجتهد لهم. ولم يترك شاردة ولا واردة مما يخص الموضوع إلا حشدها من أجلهم، يراهم عاكفين على ما هم فيه، مقيمين على ما هم عليه من قناعاتهم وهمومهم، دون تبديل أو تغيير، وعندها لا آمن على أخي الداعية الذي بذل آخر ما يملك من وسائل، وكل ما أتيح له من أساليب، لا آمن عليه أن يصاب بنوع من اليأس، أو يتسرب إلى نفسه معنى الإحباط. والآفة التي حالت دون بلوغ الداعية إلى ما يريد هي أنه أخطأ الطريق إلى قلب من يدعوه، والقلب هو كل شيء في رحلتنا إلى الله، وما الجسم إلى مطية لهذا القلب، وصدق رسولنا الكريم القائل: "ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
إن كثيرًا من الدعاة المخلصين، تدفعهم أشواقهم- لتحقيق مرادهم- إلى استعجال النتائج، واستبطاء النصر، فيغفلون عن الأساسيات الضرورية ويقفزون فوق الثوابت الشرعية، فتأتي النتائج على غير ما يحبون؛ لأنهم تعجلوا مراحل الدعوة، ولم يبدءوا بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم أنزلوا غير المؤمن منزلة المؤمن، وأنزلوا الجاهل منزلة العالم، وحملوه مهام الدعاة الفاهمين المدركين، فلم تكن النتيجة إلا انكسارًا في لحظة الشدة، وخورًا في موطن القوة، وشكًّا وريبةً في مواضع الإيمان واليقين. وعندما يقع ما نحب من الانهيار والانكسار نصاب بالحيرة ونشعر بالمرارة وننسى قول الخالق الحكيم.
--------------
* الهوامش
(1) في ظلال القرآن ص 2666 ط 7.
(2) تذكرة الدعاة- البهي الخولي 71.