بقلم: أحمد الجعلي
ما إن يصل الشاب أو الفتاة إلى مرحلة المراهقة- بل وقبل ذلك- حتى ينتظر بلهفة ذلك الشيء الجميل المسمى بالحب الأول، وما سيأتي من كلام في معظمه يتعلق بالحب عامةً سواء كان الأول منه أو الثاني، ولكننا سنختص الحب الأول تحديدًا بالكلام؛ لأن صاحبه غالبًا ما يفتقد الخبرة والتجربة؛ وبالتالي يحتاج لمزيد توضيح وشرح.
حول الحب عامة
الحب هو شعور ما ينتاب الشخص، وربما من الفلسفة أن نحاول وصف الحب بكلمات وعبارات، ومن الظلم أن نطلب من الحروف والكلمات أن تصوغ المشاعر والأحاسيس.
ولكنه على أي حال مزيج من مشاعر كثيرة، مشاعر بالدفء.. مشاعر بالأمان.. مشاعر باللهفة.. مشاعر بالأنس.. مشاعر بالسعادة..
وبالتأكيد كلمة الحب في معناها الواسع تشمل الكثير من المحبوبات التي قد تكون شخصًا أو شيئًا أو زمنًا أو.. أو..
ولكن ما يعنينا هنا هو الحب بمعناه الأول الذي يتبادر ويلمع في الأذهان فور ذكر هذه الكلمة، ونعني به الحب بين الولد والبنت أو بين الذكر والأنثى.
العاطفة والعقل في الحب
هذا الحب بين الرجل والمرأة أو أي حب في حقيقته حتى يكون مكتمل الأركان لا بد أن يبنى على شقين: شق عاطفي؛ من مشاعر وأحاسيس، وشق آخر يقوم على العقل والاقتناع.
فلربما بدأ الحب بقناعة عقلية أوجدت بعدها عاطفة قلبية، أو لربما بدأ بأحاسيس قوية استتبعت قناعات فكرية، وربما بدءا سويًا، وربما بني الحب على جانب واحد دون الآخر.
وحتى يكون الحب مثمرًا مستمرًا صامدًا أمام ما سيقابله من عوائق وما سيعتريه من مصاعب على طول الأيام، فلا بد أن يرتكن على الجانبين معًا "العقل والعاطفة"؛ حتى يتحقق له الاتزان، ولا يخضع لإمرة سلطان العقل أو القلب فقط دون إمرة السلطان الآخر؛ بما قد يؤدي لانهيار هذا الحب في لحظة من تمرد أحد السلطانين.
العاطفة في الحب الأول
كنت ذات مرة عند صديق فأخذ يحدثني عن صديق له سيزوره بعد قليل، وبدأ يحدثني عن صفاته وأخلاقه وشمائله وعن أعماله وإنجازاته، حتى أني من كثرة حديثه انتظرت ذلك الضيف بفارغ الصبر لأتعرف عليه وأتقرب منه، وبعدها تطرقنا لبعض الموضوعات التي تحدث على الساحة العامة، وما هي إلا دقائق حتى دق جرس المنزل ودخل الضيف، فقمت إليه على الفور مُرحبًا ومُسلمًا وينتابني شعور بالسعادة والفرح لتعرُّفي عليه، وأخذت أتحدث إليه وأتكلم معه وأسأله وأستفيد من خبرته.
جلس معنا قليلاً من الوقت ثم انصرف، وبعدها بقليل دق الجرس من جديد فقام زميلي ليرد على الباب وإذا به يدخل ومعه ضيف جديد قدمه لي قائلاً: هذا فلان.. مَن كنت أحدثك عنه منذ قليل!.
هنا أُسقط في يدي وسألته: هذا صديقك الذي كنت تحدثني عنه؟!.
إذن مَن كان هذا الضيف الذي مشى منذ قليل؟!.
فأجابني أن الشخص الذي كان في زيارتنا ومشى منذ قليل كان أحد أقربائه وليس الشخص الذي كان يحدثني عنه!!..
ما المراد من هذه القصة؟!
أولاً: القصة السابقة بكل تفاصيلها هي خيالية ولكنها حقيقية..
بمعنى أنها لم تحدث هكذا نصًّا، ولكن في الحقيقة كثيرًا ما نمرّ في حياتنا بمثل هذه القصة تمامًا في كثير من المواقف ومن بينها: "الحب الأول".
منذ الصغر ونحن نشاهد التلفاز ونسمع الأغاني ونقرأ القصص ونشاهد المجتمع من حولنا، لتزرع في دواخلنا صورة ما عن شيء جميل بإنجازاته وأعماله.. هذا الشيء يسمى: الحب.
ثم يدور الحديث على أنه سيزورنا قريبًا في سن الشباب، في علاقة بين ولد وبنت، فنتهيأ تمامًا شئنا أم أبينا بعقلنا الواعي أو الباطن لانتظار هذا الضيف.
وما إن يظهر ضيف أي ضيف؛ وما إن نشعر بعاطفة تجاه الطرف الآخر حتى نعتبرها فورًا هذا الحب الأسطوري الذي سمعنا عنه كثيرًا واشتقنا لاستقباله.
رغم أنه قد يكون في الحقيقة شيئًا آخر أو ضيفًا آخر يمر وليس هو الشخص المقصود بعينه أو عاطفة الحب المنتظرة.
لعل الفكرة قد وصلت.. وحتى نقرب الفكرة أكثر، نسرد لكم سريعًا بعضًا من الضيوف الآخرين الذين ربما زارونا في نفس توقيت انتظارنا للحب فنظنهم هم ذلك الضيف المرتقب.
مِن هؤلاء الضيوف:
الميل الفطري
الناتج عما ركبه الله فينا من طبيعة فسيولوجية تضمن استمرار الحياة وبقاءها.
الارتياح
قد يشعر أحد الطرفين بارتياح للطرف الآخر ويظن أن هذا الشعور هو الحب.
هذا الارتياح قد يكون ناتجًا عن ملامح الوجه، أو عن طريقة اللبس أو ناتجًا عن نبرة الصوت أو ناجمًا عن طول المعاشرة أو للمشاركة في الأفكار والمشروع أو.. أو.. أي أن هناك الكثير من الأمور التي قد يشعر معها الشخص بارتياح للطرف الآخر، فيظن أن هذا هو الحب المرتقب.
الإعجاب
قد يكون إعجابًا بالجمال أو بالوسامة، وربما كان إعجابًا برجاحة العقل أو بترتيب الكلمات، أو للشجاعة أو للقوة أو للتفوق الدراسي والعلمي أو الغنى المادي أو المستوى الاجتماعي أو... وغيرها من المشاعر التي قد تختلط على صاحبها ويظنها حبًّا، مثل الاستئناس والسعادة والاستفادة..
تنبيهات غاية في الأهمية:
1- ليس هناك من مانع أن ينمي الشخص تلك المشاعر السابقة حتى وإن وجدت منفردةً لتتطور وتصبح حبًّا بمعانيه وعواطفه الأوسع.
2- ولكن من المهم جدًّا أن تسمى الأمور بداية بمسمياتها، ولا نبني الخطوات والأفكار والأحلام على عاطفة نظنها حبًّا وهي في الحقيقة ليست كذلك.
3- إن تنمية تلك العواطف حتى تصبح حبًّا تحتاج للسلطان الآخر "سلطان العقل"، وأن يكون له دور مهمّ وحاسم في هذا القرار.
العقل ودوره في الحب الأول
بالتأكيد تختلف نسبة استخدام العقل والعاطفة من شخص لآخر، وفي الشخص الواحد من موقف لآخر.
ولسنا هنا بصدد أن نحسم جدلاً طويلاً حول مكانة العقل والعاطفة لدى كل من المرأة والرجل، خاصةً أن آفة التقييم التعميم، إلا أن المتعارف عليه أن أغلب بنات حواء يغلب عليهن العاطفة وليس هذا عيبًا، فلقد خلقها الله كذلك لتتحمل آلام الحمل ومشاقّ الرضاعة ومتاعب التربية والطفولة وتكون الزوجة والابنة والأم والأخت.
ويغلب على الرجال استخدام العقل؛ ليكمل الزوجان القيادة الآمنة لمركب الزوجية.
ويغلب على العاطفة في حكمها اللحظة الحالية، في حين يغلب على العقل التحليل والنظرة المستقبلية؛ فمثلاً ربما أحسَن إليك شخص ما وفي قمة انفعالك بحسن جميله وطيب صنيعه تقدم مثلاً على أن تعطيه كل ما تملك محاولةً منك لرد معروفه دون أن تفكر في نتائج هذا العمل.
أو ربما أساء إليك أحدهم فتدفعك عاطفتك للبطش به وربما قتله أيضًا دون أن تفكر في نتائج هذا الإجراء.
لنستخدم العقل
لا بد أن يلعب العقل دورًا مهمًا في إنضاج تجربة الحب والتي هي بالأساس تجربة عاطفية، ولكن لمسات العقل عليها تضمن لها السلامة وتقوِّم مسارها.
ومن استخدامات العقل:
1- أن يعلم الشخص هل الوقت مناسب لفرد المساحات لتلك العاطفة وما سيتبعها من خطوات وإجراءات ارتباط وزواج أم أن الأمر لا يزال بعيدًا وينبغي لتلك العاطفة أن تقتصر وأن لا يصيبها الجموح والانطلاق في غير استعداد لتبعاتها؟
2- أن يدرس جيدًا إمكانية توافق الطرفين لتكوين حياة زوجية ناجحة، مراعيًا في ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية.
3- العقل يدرك تمامًا أنه من الصعب أن تجد فتى أحلامك أو فتاة أحلامك في صورة مثالية بالضبط كما تخيلتها وانتظرتها.
4- يدرك العقل أن الحياة ولا شك فيها من المتغيرات والعواصف والرياح التي قد تهز شراع الحب أو تحنيه حينًا، ولكن ليس معنى ذلك الاستسلام وأن هذا هو نهاية المطاف، فلتلك العواصف لحظات وتعود بعدها الحياة هانئة هادئة.
5- ولكنه أيضًا يعلم أن هناك من المتغيرات والقواصف ما لا يصلح بعدها إصلاح ولا يجب أن يكمل بعدها المشوار.
6- بل وعلى العقل الناضج أن يبحث بموضوعية من البداية عن إمكانية وجود مثل تلك التنافرات بينه وبين الطرف الآخر، والتي قد تخفيها عاطفة متوقدة، ولكنها في حقيقتها سدٌّ منيعٌ لن يصلح الحال بين الطرفين بوجود مثل تلك الصفات المتنافرة المتضادة.
7- يدرك العقل أن كل طرف هو وليد ثقافة وتربية امتدت على مدار عمره الذي قد يقارب العشرين أو يزيد، وأن عليه- إن رضي بالطرف الآخر وتأكد أن ثقافة الآخر وصفاته باختلافها لن تكون معوقًا في الطريق- أن يتقبل تلك الاختلافات ويتفهمها.
8- ولكنه أيضًا يعرف أن كل شيء وكل الصفات قابلة للتغير، ولكن هذا التغيير لا بد وأن يسبقه اقتناع ورضا، وألا يكون في اتجاه أحد الطرفين، بقدر ما يكون في اتجاه الأصح من الطرفين.
ملحوظات مهمة على العقل:
1- في حال استخدام العقل ينبغي تمامًا أن يسكن صوت العاطفة لحين أن يصل العقل لقراره بعيدًا عن المؤثرات، وبعدها يعرض ما وصل إليه العقل مجردًا على العاطفة، ليتشاورا معًا ويصلا إلى قرار.
2- في بعض اللحظات هناك محطات مصيرية فاصلة وينبغي أن يكون للعقل فيها الدور الأكبر، وإذا لم يصل العقل والقلب لتوافق واتفاق؛ فإن الاستماع لصوت العقل في أغلب تلك المواقف يكون هو الأصح والأسلم.
3- يستطيع العقل أن يتفهم رأي الآخرين- الأكبر سنًّا- فيمن اختار قلبه للحب، فربما نصحوه بالابتعاد ووضحوا الأسباب، ويدرك كيف يفصل بين رضاء والديه وإرضاء عواطفه القلبية.
3- "من يده في الماء ليس كمن يده في النار"؛ مقولة صحيحة وتنطبق تمامًا على العقل والعاطفة؛ لذا حاول في حال استشارة العقل أن تتخيل أن المشكلة لا تخصّك أنت، تخيل أنها مشكلة لقريب أو عزيز عليك، يعرضها عليك فبماذا كنت ستنصحه؟
تخيَّل أن هذه القصة هي فيلم مجسّد، ترى ما هو الموقف البطولي الذي كان يجب أن يفعله البطل حتى ينال تصفيق الحضور والمشاهدين؟ فَكِّر في هذا الدور ومواقف البطل وكيف يجب أن تكون، وأنت لست أقل من البطل في حياتك.
أخيرًا..
العاطفة هي أمر قد لا نملكه ولا حرج فيها، ولكن الحرج في الأفعال والتصرفات التي تتبع تلك العاطفة، وهل جاءت موافقة لما يرضي ربنا ويوافق شرعنا أم أنها جاءت غريبة مخالفة لما يرضي الله عز وجل؟
ما سبق هو مجرد خطرات وومضات لا تضيء مثل هذا الموضوع من كل جوانبه أو تحل أزمته أو تكشف حقيقته وفلسفته، ولكنها بعض الأدوات قد تفيد حيرانَ وقد تروي ظمآنَ، ولكن يبقى لكل حالة خصوصيتها ولكل تجربة تفاصيلها.
--------
* طبيب- رئيس اتحاد الطلاب الحر الأسبق بجامعة القاهرة.