وقفة مع فريضة الحج

وقفة مع فريضة الحج






بقلم: عكاشة محمود عباد

الحمد الله القائل: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)) (الحج)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، أما بعد..



إليك إلهي قد أتيت ملبيا فبارك إلهي حجتي ودعائيا

قصدتك مضطرًا وجئتك باكيا وحاشاك ربي أن ترد بكائيا

كفاني فخرًا أنني لك عابد فيا فرحتي إن صرتُ عبدًا مُواليا

إلهي فأنت الله لا شيءَ مثله فأفعم فؤادي حكمةً ومعانيا

أتيت بلا زاد، وجودك مطمعي وما خاب من يهفو لجودك ساعيا

إليك إلهي قد حضرت مؤملا خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا



إخوة الإسلام: لماذا نقف مع فريضة الحج؟

لأن الحج:

1- من أفضل الأعمال عند الله قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الأعمال، الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها" (تخريج السيوطي .. عن ماعز- رضي الله عنه- تحقيق الألباني.. صحيح).



2- الحج نوع من أنواع الجهاد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه... حج البيت" (تخريج السيوطي.. عن الشفاء- رضي الله عنها- تحقيق الألباني.. صحيح).



3- الحج يكفر الله به الذنوب قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (متفق عليه، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-).



4- الحج جزاؤه الجنة قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (تخريج السيوطي عن ابن عباس- رضي الله عنه- تحقيق الألباني، صحيح).



إخوة الإسلام: لذلك نقول علينا أن نتعجل ونسرع بالحج وأداء هذا الركن قبل أن يحدث ما حذر الرسول- صلى الله عليه وسلم- منه حيث قال في الحديث: "تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يُعرض له" (تخريج السيوطي عن ابن عباس- رضي الله عنه- تحقيق الألباني صحيح).



فماذا يمكن أن يحدث؟



عكاشة محمود عباد

قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة (تخريج السيوطي عن الفضل- رضي الله عنه- تحقيق الألباني- حسن).


إخوة الإسلام: الناس أمام ركن الحج خمسة أصناف

الصنف الأول: من كتب الله له الحج هذا العام..

نقول له أنت أمام فرصة قد لا تعوض، وقد لا تأتي مرة ثانية، إنها فرصة غفران الذنوب، إنها فرصة بداية حياة جديدة لا ذنب فيها ولا معصية، إنها فرصة دخول الجنة. كل هذا يتحقق لك إذا كان حجك مبرورًا.



فكيف يكون حجك مبرورًا؟ ثلاث أشياء على سبيل المثال

الأول: رد المظالم.. اجلس مع نفسك وفكر في المظالم التي عليك، هل ظلمت أحدًا في ميراث، هل أخذت ما ليس لك بحق يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة" (تخريج السيوطي عن ابن عمر- رضي الله عنه- تحقيق الألباني، صحيح).



الثاني: المال الحلال.. اجلس مع نفسك وفكر هل مالك حلال ليس فيه رشوة وربا أو اختلاس أو غش في كيل أو ميزان أو......... يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم:- "إذا حج الرجل بمال من غير حله فقال: لبيك اللهم لبيك قال الله: لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك" ‌(تخريج السيوطي عن ابن عمر- رضي الله عنه- تحقيق الألباني، ضعيف).



الثالث: التوبة.. تب إلى ربك واقلع عن الذنوب قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)) (التحريم).



تب إلى الله وصل رحمك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم" (تخريج السيوطي عن رجل من خثعم- رضي الله عنه- تحقيق الألباني، حسن).



تب إلى الله وصالح جارك ولا تقاطعة لأنه وصية حبيبك محمد- صلى الله عليه وسلم-: الذي قال: "أوصيكم بالجار" (تخريج السيوطي عن أبي أمامة- رضي الله عنه- تحقيق الألباني- صحيح).



الصنف الثاني: من يملك الاستطاعة وحاول ولكن لم يوفق..

نقول له حوال مرة ثانية وثالثة ونوع الأبواب وابلغ من حولك بهذا المحاولة حتى إذا مت كتب الله لك محاولاتك، وإن حج أحد عنك حج عن رجل حاول أداء الفريضة.



الصنف الثالث: من لا يملك الاستطاعة أصلاً لفقر أو مرض أي حبس أو غير ذلك..

فعليه أن ينوي الحج أن قدره الله، ويبلغ من حوله بهذه النية والرغبة والقرار حتى إذا مات كتب الله له نيته (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) (الانفطار)، أي كانت تنوى فعله، وإن حج أحد عنك حج عن رجل ينوي أداء الفريضة.



الخطبة الثانية

يقول عبد الله بن المبارك: كنت مولعًا بالحج إلى بيت الله حرام، شديد المداولة على حضوره في كل عام، وفي بعض السنين لما قرب وقت الحج تهيأت لذلك، فقمت وشددت على وسطي كيسًا فيه خمسمائة دينار، وخرجت إلى سوق الإبل لأشتري جملاً للحج، فلم يقع في يدي ما يصلح للطريق، فرجعت إلى منزلي فرأيت في الطريق امرأة جالسة على مزبلة وقد أخذت دجاجة ميتة كانت على الكناسة، وهي تنتف ريشها، فوقفت خلفها وقلت: لم تفعلين هكذا يا أمة الله؟. فقال: امض لشأنك واتركني. فقلت: سألتك بالله إلا اعلمتني بحالك. فقالت: إذا ناشدتني بالله فاعلم أني امرأة، وعندي ثلاث بنات صغيرات، وقد مات أبوهن، ولنا ثلاث ليالٍ بأيامهن على الطوى (الجوع) لم نأكل شيئًا، فخرجت أبحث لهن عن شيء، وتركتهن يتضورن من ألم الجوع فلم أجد لهن غير هذه الدجاجة الميتة، فأردت إصلاحها، فلقد حُلت لنا الميتة. قال عبد الله: فلما سمعت ما قالت وقف شعري واقشعر جلدي وقلت لنفسي: يا ابن المبارك، وأي حج أعظم من هذا؟.



فقلت: أيتها المرأة إن هذه الدجاجة حرام عليك، افتحي حجرك فحللت الكيس وصببت الدنانير جميعًا في حجرها، فقامت مسرورة ودعت لي، فرجعت إلى منزلي وانشغلت بعبادة ربي، فلما انتهى موسم الحج وعاد الحجاج من مكة خرجت للقائهم، فكلما صافحت واحدًا يقول لي: يا ابن المبارك ألم تكن معنا؟ فلقد شاهدتك في موضع كذا وكذا. فتعجبت من ذلك وعدت لمنزلي ولما نمت رأيت في منامي من يقول ولي: لقد فرجت على المرأة وأصلحت شأنها وشأن أيتامها، فبعث الله ملكًا على صورتك فحج عنك هذا العام.



الصنف الرابع: من يملك الاستطاعة ولم يحاول..

فلهؤلاء نقول ما قاله رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏: "من ملك ‏زادًا ‏وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا" (أخرجه الترمذي.. عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-).



الصنف الخامس: من حج الفريضة ويريد أن يحج النافلة..

نقول له أسمع هذا الحوار: أتى رجل من أتباع بشر بن الحارث الحافي- إمام الزهد والورع وإمام العامة- وشريك أحمد بن حنبل في محنته.. يستأذنه في السفر إلى بيت الله الحرام حاجًّا حجة ثانية بعد الفريضة..



فسأله بشر: فيمَ خروجك؟! زهدًا في الدنيا أم تشوقًا إلى البيت أم ابتغاء رضوان الله؟!



فقال الرجل: بل ابتغاء مرضاة الله. فقال بشر: فكم أعددت للنفقة؟ قال الرجل: ألفي درهم
فقال له بشر: ألا أدلك على رضوان الله وأنت جالس في بيتك؟! فقال الرجل: بلى.



فقال بشر: اذهب فأعطها عشرة أنفس (أشخاص) مدين يقضي دينه، وفقير يلمُّ شَعثه، ومعيل يغني عياله، ومربّي يتيم يفرحه، وإن قويَ قلبك تعطيها واحدًا فافعل، فإنَّ إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضرِّ وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام.



ثم قال بشر: قل لنا يا رجل ماذا اخترت؟ أو قل لنا ماذا ما في قلبك؟! فقال الرجل: يا أبا نصر سفري إلى البيت أرجى..



فقال بشر: "إن المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات.. اقتضى من النفس أن تقضي وطرًا فتظهر الأعمال الصالحة وأبى الله إلا أن يقبل إلا من المتقين.



وإذا كان ما ذكره بشر أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام في وقت كانت تمتطي فيه ظهور الإبل للحج، ومن ثم كانت المشقة له سمةً وعنوانًا، فكيف وقد أصبح في أيامنا سياحةً وترفيهًا لا يكاد يُصدَّق؟

-------------

* محاسب قانوني وخبير ضرائب

الشوبك الغربي- البدرشين- الجيزة

صفحة "الفيس بوك" (عكاشة عباد)