المنهج العملي في التصوف
إن الصوفية لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بيد تلميذهم ويسيرون به في مدارج الترقي، ويرافقونه في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى، يحيطونه برعايتهم وعنايتهم، ويوجهونه بحالهم وقولهم، يذكرونه إذا نسي، ويقوِّمونه إذا انحرف، ويتفقدونه إذا غاب، وينشطونه إذا فتر. وهكذا يرسمون له المنهج العملي الذي يمكنه به أن يتحقق بأركان الدين الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان. ومن أهم الطرق العملية التي يطبقها رجال التصوف للوصول إلى رضا الله تعالى ومعرفته:
[عدل] العلم
يعتقد الصوفية أن العلم والعمل توأمان لا ينفكان عن بعضهما، والسالك في طريق الإيمان والتعرف على الله تعالى والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل سلوكه. ففي ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات، وفي أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس.ولهذا اعتُبِرَ اكتساب العلم الضروري من أهم النقاط الأساسية في المنهج العملي للتصوف، إذ ليس التصوف إلا التطبيق العملي للإسلام كاملاً غير منقوص في جميع جوانبه الظاهرة والباطنة[24].
[عدل] الصحبة
حيث يعتقد الصوفية أن للصحبة أثراً عميقاً في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه، وأن الصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثر الروحي والاقتداء العملي. وأن الصحابة ما نالوا هذا المقام السامي والدرجة الرفيعة إلا بمصاحبتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ومجالستهم له. وما أحرز التابعون هذا الشرف العظيم إلا باجتماعهم بالصحابة.
وبما أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عامة خالدة إلى قيام الساعة، فإن له ورّاثاً من العلماء العارفين بالله تعالى، ورثوا عن نبيهم العلم والخُلق والإيمان والتقوى، فكانوا خلفاء عنه في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الله، فمَنْ جالسهم سرى إليه من حالهم الذي اقتبسوه من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومَنْ نصرهم فقد نصر الدين، ومن ربط حبله بحبالهم فقد اتصل برسول الله محمد - حسب اعتقادهم -. هؤلاء الوراث هم الذين ينقلون للناس الدين، مُمَثَّلاً في سلوكهم، حيَّاً في أحوالهم، واضحاً في حركاتهم وسكناتهم، هم من الذين عناهم رسول الله محمد بقوله: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.[25]. ويعتقدون أن أمثال هؤلاء الوراث لا ينقطع أثرهم على مر الزمان، ولا يخلو منهم بلد، وأن صحبتهم ترياق مجرب، والبعد عنهم سم قاتل، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم؛ مرافقتهم هي العلاج العملي الفعَّال لإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، وغرس العقيدة، ورسوخ الإيمان، لأن هذه أُمور لا تُنال بقراءة الكتب، ومطالعة الكراريس، إنما هي خصال عملية وجدانية، تُقتبس بالاقتداء، وتُنال بالاستقاء القلبي والتأثر الروحي.
ويستدلون على أهمية الصحبة بآيات من القرآن الكريم، منها:
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وكُونوا معَ الصادقين) [التوبة: 119].
قال الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذينَ يدعون ربَّهم بالغداةِ والعشيِّ يُريدونَ وجهَهُ ولا تَعْدُ عيناك عنهُم تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبَه عن ذكرنا واتَّبَعَ هواهُ وكان أمرُه فُرُطاً) [الكهف: 28].
قال الله تعالى: (واتَّبِعْ سبيلَ مَنْ أنابَ إليَّ) [لقمان: 15].
قال الله تعالى: (ثم استوى على العرشِ الرحمنُ فاسألْ به خبيراً)[الفرقان: 59].
قال الله تعالى: (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [الكهف: 17].
ويقول أئمة التصوف في أهمية صحبة الشيوخ المرشدين:
قال الإمام الغزالي : مما يجب في حق سالكِ طريق الحق أن يكون له مرشدٌ ومربٌّ ليدله على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة[26].
قال الإمام ابن عطاء الله السكندري : وينبغي لمن عزم على الاسترشاد، وسلوك طريق الرشاد، أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق، سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه فإذا وجده فليمتثل ما أمر، ولينْتهِ عما نهى عنه وزجر[27].
قال الشيخ أحمد زروق : أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذه دونهم (بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدور الذينَ أوتوا العلمَ)، (واتَّبِعْ سبيلَ مَنْ أنابَ إليَّ)، فلزمت المشيخة[28].