لقد خلق الله الناس لكي يعيشوا في مجتمعات بشرية تختلف في مذاهبها وطرقها في الحياة وكسب العيش ، فبعضها تآلف أفرادها وانصهروا في بوتقة واحدة وعاشوا في تكامل وتكافل وصار لهم قوة علمية وعملية متفاعلة ومتطورة حيث إن الأفراد يعملون عن رغبة واختيار في صور فردية وجماعية لخدمة مجتمعهم وأنفسهم وسد حاجاتهم ، وبعض المجتمعات تنافر أفرادها كأقطاب المغنطيس المتشابهة وصارت الفوارق بينهما كبيرة فأصبحت تعيش في طبقات ونزاع وشاع بينهم الفقر والجهل وانعدام الأمن .
وهكذا تطور النظام الاجتماعي رويدا رويداً وتدرجت المجتمعات في هذا المضمار حسب وعي أفرادها وشعورهم بالمسؤولية في أنفسهم وتجاه مجتمعهم وإدراكهم لقيمة العمل الجماعي والتطوعي حيث الرغبة في قيمة العمل والمصلحة العامة دون النظر إلى مقدار الأجر .
والعمل التطوعي يعتبر معيار لمدى رقي المجتمع وتطوره ووعي أفراده بأهمية الوقت ونفع الآخرين يحدوهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (( خير الناس أنفعهم للناس )) وحرصهم على رعاية مصالحهم الخاصة والعامة ومدى شعورهم بمعاناة الآخرين وحاجاتهم ، ويمثل التكملة للعمل الرسمي الذي تقوم به الدولة ، وبه تسد الثغرات وتقال العثرات وترفع به الدرجات عند الله عزّ وجلّ إذا خلصت النوايا وصلحت المقاصد ، فهو قربى يتقرب بها المسلم لربه مثل النوافل يتقرب بها العبد إلى ربه وأحياناً يكون واجباً لأن المسلم مأمور بأن يكون جل وقته متقرباً إلى الله عزّ وجلّ حيث يقول تعالى : { فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب } ، والله جلا وعلا يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
والعمل التطوعي في الإسلام يأخذ أشكالا متعددة ويهتم بكل صغيرة وكبيرة لإصلاح المجتمع حتى في إماطة الأذى عن الطريق ، ففي الصحيحين قال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ((الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان )) فهو متأصل في عقيدة المسلم ، والتعاون على البر والتقوى واجب في كل الأمور التي فيها خير الأمة وصلاحها .
وإذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي ـ خير الأمم التي أخرجت للناس ـ في صدره الأول حيث كان النموذج والقدوة ونزول الوحي والتربية الربانية والهداية النبوية ، فنجد أنه مجتمع قام على أساس متين متماسك في بناءه العقدي والفكري كل فرد يمثل أمة وقرآناً يمشي على الأرض يقوم بواجبه ويستشعر مسؤولياته بتلقائية وشفافية ، وذلك يرجع إلى التنشئة والتربية السليمة والتي أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداع له سائر الجسد بالسهر والحمى وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
وعلى هذه المبادئ العظيمة والصفات الحميدة تربى جيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكانت من الأسس التي قام عليها العمل التطوعي في الإسلام وهو عمل رائع وراسخ في خلق المسلم وآدابه ، يشمل كافة جوانب الحياة العلمية والعملية والدعوية والاجتماعية والمعيشية وغيرها ، فكان المجتمع المسلم مهيأ ومعد لخوض معركة الحياة بتفوق ونجاح باهر ، يتحرك كجسم واحد ويعيش في تكافل وتوافق وانسجام تام فكان رهن الإشارة لسد الثغرات وتلبية الحاجات العامة والخاصة سمعاً وطاعة لرب السماوات والأرض وإتباعا لرسول الهدى والنور المبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل ليس لديهم وظائف يأخذون عليها أجراً ومالاً في إعمالهم التطوعية رجاء ما عند الله والدار الآخرة .
فما أن يدعو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سد ثغرة إلا ونرى الصحابة الكرام يتنافسون ويتدافعون بقوة عظيمة مستمدة من إيمانهم وفهمهم العميق للقرآن الكريم : { وفي ذلك فاليتنافس المتنافسون } ، { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض }، فمنهم من تبرع بكل ماله وبنصفه ومنهم من جهز الجيوش ومنهم من ضحى بنفسه وماله ومنهم من تحسر وذرف منه الدمع أن لا يجد ما ينفق ! فضربوا أروع الأمثلة في التاريخ تطوعاً لخدمة ونصرة الإسلام والمسلمين ولتكون كلمة الله هي العليا ، وبهذا النهج بلغت دعوتهم مغارب الأرض ومشارقها ووصلوا معاقل الطغيان والكفر وهزموا أكبر إمبراطوريتين في العالم وبسطوا السلام ونشروا الدعوة والوئام .
وهذا ما يميز العمل التطوعي في الإسلام عن غيره من المجتمعات الغربية والتي اهتمت أيضاً بهذا الجانب واستفادوا منه كثيراً حيث أخذت الجمعيات والمؤسسات التطوعية حيزاً كبيراً في شتى مجالاتهم الحياتية والمادية وكانت سبباً من أسباب نهضتهم العلمية والاجتماعية ، فكان دافعهم للعمل التطوعي الفراغ الروحي والذي يمثل هاجساً كبيراً في حياتهم ، وأحياناً يكون بدافع الإنسانية أو الشهرة و المجاملة ، بل هناك أسباب دينية وهي من أجل التنصير فنجد أن الجمعيات التنصيرية انتشرت في بلدان أفريقيا وفي غيرها ، وتجمع أموالاً طائلة لإنجاز مهامها ولكنهم في ضلالهم يعمهون ويتيهون { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}.
وبالنظر إلى واقع المجتمع المسلم اليوم نجد أن العمل التطوعي قد تطور وأصبحت له مؤسسات ترعاه وتنظمه لتلبية احتياجات الناس ومتطلباتهم ، فقامت الجمعيات والمؤسسات الخيرية والدعوية وبحمد الله وتوفيقه سدت ثغرات عظيمة واستفاد منها عدد كبير من الناس .
ونحن اليوم أحوج ما نكون للعمل التطوعي لأهميته في اكتشاف المهارات وتنميتها وتوجيهها فيما يخدم الإسلام والمجتمع ، ويساهم العمل التطوعي في ملء فراغ الشباب وتدريبهم على الحياة العملية حتى يكونوا مواطنين صالحين يرجى منهم النفع في المستقبل .
وإذا نظرنا إلى العمل التطوعي في مجال الدعوة إلى الله عزّ وجلّ فهو يعتبر رائدا بل ركيزة أساسية يعتمد عليها المهتمون بأمر الدعوة وقد تحققت إنجازات كبيرة في ذلك ، ولكن المساحة شاسعة والعمل يحتاج إلى شحذ الهمم باستلهام الدروس والعبر والاقتداء بالسلف الصالح ، ويحتاج إلى المزيد من التطوير والتنسيق والانسجام بين الدعاة وكذلك الاستفادة من طاقات الشباب وتفعيلها ، وأيضاً الاهتمام بوسائل التقنية ومواكبة الأحداث ومتابعتها وهذا لا يتأتى إلا بالعمل التطوعي الجماعي وتبادل الخبرات والبحث المستمر والاطلاع المتواصل وزيادة الحصيلة العلمية .
أسال الله أن يسدد الخطى ويبارك في الجهود وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،،