ربما لا يبدو مفهوم العمل التطوعي خافيا على احد من حيث المعنى إلا انه يبدو خافيا و مختفيا من حيث التطبيق و الممارسة في مجتمعنا،فالتطوع بمفهومه العريض يتضمن مختلف الجهود الإنسانية التي يبذلها الفرد أو الجماعة في المجتمع على أساس الرغبة و الدافع الذاتي من دون الهدف إلى تحقيق أي مقابل أو عائد مادي خاص لقاء هذه الجهود مما يخلق شعورا داخليا بالراحة و الرضا عن النفس فضلا عن كونه يعزز شعور الانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه الفرد أو الجماعة.
و انطلاقا من هذا التعريف المبدئي لمعنى العمل التطوعي،تبرز ببساطة الأسباب المكونة للصورة السلبية عنه باعتباره بلا عائد مادي أو فائدة ملموسة تتحقق لممارسيه خاصة في مجتمعنا الذي باتت النفعية المادية هي محركه الأول الأساسي و الوحيد.و إذا أضفنا على ذلك ارتباط العمل التطوعي غالبا بالجمعيات الأهلية الغير حكومية مما يعزز اعتقاد الناس بعدم مشروعيته و جدواه.يقول الباحث د.محمد رضوان زيادة"هناك انحسار في ثقافة العمل التطوعي عند الشباب بصورة رئيسية و السبب الأساسي يتركز في التربية المدنية التي تلعب دورا كبيرا في التأسيس لهذه الثقافة،فعدم اهتمام الأسرة و المدرسة(النظام التعليمي)بخلق و تكريس مفهوم الملكية العامة المشتركة و بالتالي ضرورة التأكيد على عدم إيذاء الممتلكات العامة لكونها ممتلكات لجميع المواطنين كلها عوامل تشكل لاحقا الأساس لتكوين الرغبة بممارسة العمل التطوعي عن فهم و احترام لاثره في بناء المجتمعات الحديثة.أيضا يلعب الخوف الأمني من الدخول في نشاطات جماعية منظمة و غياب الأهداف و عدم وضوح الغايات من وراء ممارسة العمل التطوعي كل هذا يزيد من الفهم الخاطئ لمعنى العمل التطوعي و بالتالي يخلق حاجزا يعوق ممارسته".
تتفق د.زبيدة شموط- عضو مؤسس في جمعية تطوير دور المرآة- مع رأي د.زيادة و تؤكد على أن"العمل التطوعي ليس عملا ترفيهيا و لا وسيلة لتمضية أوقات الفراغ،العمل التطوعي و تحديدا إذا كان منضويا تحت جمعية أو منظمة لها برنامج عمل فانه يحتاج إلى تخصيص وقت إضافي لممارسته،و لكونه خيارا شخصيا فانه يتطلب التزاما حقيقيا من قبل المتطوع.يخطئ من يعتقد أن العمل التطوعي هو مجرد برسيتيج اجتماعي انه في الواقع ضرورة اجتماعية في المجتمعات الحديثة،فمع زيادة عدد السكان و مشكلات التضخم و انخفاض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة في مختلف القطاعات،تبرز أهمية العمل التطوعي في تغطية جانب من احتياجات المواطنين و هو دور طبيعي و مكمل لدور الدولة و القطاع الخاص في عملية التنمية".
أسماء محمود تقي صادق (شعبة علم نفس ) دبلومة عامه نظام العام الواحد
و على الرغم من تأكيد الجميع على أهمية العمل التطوعي المنظم في المجتمعات المدنية الحديثة إلى درجة اعتباره شريكا ثالثا لكل من القطاع العام/الحكومي و القطاع الخاص ،إلا أن واقع ممارسة العمل التطوعي على الأرض في مجتمعنا لا يعكس تلك الأهمية لا من ناحية عدد الجمعيات الموجودة و لا حتى من ناحية طبيعة نشاطها و مدى فاعليته و تأثيره و ذلك بالرغم كثرة تداول مصطلحي العمل الأهلي و العمل المدني ،فهل هناك فارق بين كلا المصطلحين في المعنى و بالتالي فارق في الممارسة؟؟؟
العمل التطوعي ممارسة:
يبرز مفهوم العمل التطوعي باعتباره أساسا لعمل المنظمات الأهلية الغير حكومية ،و هو ما أصبح يعرف اليوم باسم NGOs في إشارة إلى جملة المبادرات الاجتماعية التطوعية التي تنشط في مجالات مختلفة مثل الخدمة الاجتماعية و المساعدات الخيرية و خدمات الصحة و التعليم، إضافة للاهتمام بشؤون البيئة و التنمية و التدريب المهني و تأهيل النساء و تنمية المجتمعات المحلية و الدفاع عن حقوق الإنسان و الطفل و غيرها.
و بالطبع فان مثل هذه المبادرات لا تنشط و تكتسب فعالية إلا في المجتمعات الحديثة المدنية بحسب المصطلح الإنكليزي Civil Society والذي يقابله في اللغة العربية مفردتين اثنتين مجتمع أهلي و آخر مدني يقول د.زيادة "المجتمع المدني تعريفا هو مجموعة المؤسسات و التنظيمات الاجتماعية التي تعمل باستقلال نسبي عن الدولة لتحقيق أهداف و غايات متنوعة سياسية و اقتصادية و اجتماعية و الشرط الكافي و الأساسي لقيام هذه الروابط بين الأفراد هو ارتكازها على مفهوم المواطنة كبديل للانتماءات التقليدية قبل المدنية،في حين أن المجتمع الأهلي قائم على الروابط و التنظيمات العائلية الارثية. في كلا المجتمعين يبرز العمل التطوعي بلا مقابل و لكن يختلف الهدف بين هدف نفعي بسيط وهدف إنساني تتغلب فيه المصلحة العامة على الخاصة.في المجتمع الأهلي تنشط الجمعيات الخيرية و الدينية التبشيرية في حين تنشط الجمعيات التنموية (مكافحة الفساد،دعم حقوق المرآة و الطفل،نشر الديمقراطية وتعزيز التشاركية) في المجتمع المدني. بالطبع يعد العمل الأهلي هو مقدمة أو مرحلة أولى للعمل المدني ،فالعمل الأهلي و في حال توفر نمط سياسي مفتوح فانه لابد أن يتطور و يندفع باتجاه العمل المدني مما يعني ضرورة تحول الجمعيات الأهلية إلى جمعيات مدنية بنشاطها. مع الأسف فان سوريا تعد حالة نموذجية في عدم تطور العمل الأهلي إلى مدني إذ يوجد لدينا عدد كبير من الجمعيات الخيرية مقابل عدد اقل بكثير من الجمعيات المدنية التنموية".
ما قاله د.زيادة صحيح ،إذ تشير الإحصاءات الرسمية لوزارة الشؤون الاجتماعية و العمل إلى أن عدد الجمعيات في عام 1994 وصل إلى 4089 جمعية تشمل جميع الجمعيات و المؤسسات الحكومية و شبه الحكومية و الأهلية ،في حين يبلغ عدد الجمعيات التي تملك استقلالا نسبيا عن الدولة حوالي 625 جمعية في عام 1998 اكثر من نصفها يصنف ضمن باب الجمعيات الخيرية!!!
السيد معتز دوجي مسؤول العلاقات العامة في جمعية تطوير المرأة، لا ينفي أهمية وجود جمعيات خيرية تقدم مساعدات لمختلف شرائح المجتمع بحسب حاجتها إلا انه يؤكد أنها لا تغني عن الجمعيات المدنية،يقول"هناك مثل صيني يقول بدلا من أن تعطيني سمكة كل يوم علمني كيف اصطاد،هذا المثل يوضح تماما الفارق بين الخيري و المدني ،الخيري يقدم مساعدات آنية للمحتاجين في حين أن المدني يهدف إلى تمكين الناس من الحصول على احتياجاتهم بأنفسهم.الجمعيات المدنية لا توزع أموالا بل تساعد على إيجاد سبل للحصول عليه. من هنا يمكن ربط العمل المدني بالعمل التنموي المرتبط طبعا بمفهوم التنمية البشرية من خلال توسيع خيارات الناس وتوفير فرص لهم في مجالات العمل و الدخل و الصحة و التعليم و الحقوق السياسية أيضا ،خاصة و أن ارتباط العمل التطوعي بالتنموي يعمق إحساس الفرد بمواطنته و يعزز من فاعليته".
و لكن لماذا يميل الناس باتجاه ممارسة العمل التطوعي بجانبه الخيري اكثر من ميلهم لممارسة العمل التطوعي بجانبه التنموي ،خاصة مع وضوح عدم إمكانية الاكتفاء بالدور الخيري للجمعيات في حل المشكلات الكبيرة مثل تزايد نسبة الفقر و ارتفاع معدلات البطالة و عمالة الأطفال و اضطهاد المرأة و غيرها الكثير من القضايا المتفشية في مجتمعنا،يقول السيد دوجي "إن تاريخ الجمعيات الخيرية عريق في سوريا فميتم سيد قريش الخيري يعد أول جمعية خيرية تأسست في سوريا منذ عام 1880 فضلا على ان تاريخ العمل الخيري بالعموم عميق جدا و ربما بدا مع فكرة وجود الوقف، في حين أن الحديث عن جمعيات ذات طابع تنموي مدني حديث العهد إذ بدء في السبعينيات من القرن الماضي و بالتالي فان فارق التأثير مبرر جدا،بالطبع هناك تقصير إعلامي من ناحية عدم تسليط الضوء بطريقة صحيحة و التعريف الكافي بطبيعة نشاطات الجمعيات المدنية و أهميتها ،بالإضافة إلى ضعف النشاطات المدرسية اللا صفية التي تكرس المفهوم الحقيقي لمعنى العمل التطوعي التنموي.إننا نعاني من نقص في الثقافة و بالتالي مشكلات في الممارسة،و هنا بالطبع يوجد مسؤولية على الجمعيات التي تحتاج إلى وضع استراتيجيات خاصة و إن كانت بسيطة لنشر الوعي بثقافة العمل التطوعي التنموي بالإضافة إلى مسؤولية الحكومة أيضا.الإيجابي في الموضوع هو وجود رغبة كبيرة و حقيقية لدى الكثيرين بالمشاركة و إن كانوا يجهلون السبل إلى ذلك،الناس بحاجة إلى التعرف على أقنية متنوعة للمشاركة ليختاروا منها ما يتوافق مع أفكارهم،فالعمل التطوعي وسيلة حقيقية لتطبيق الديمقراطية فعليا لان كل فرد في العمل التطوعي لديه إمكانية اختيار المجال الذي يؤمن بأهمية العمل فيه".
أخيرا فان تذكر تقرير التنمية البشرية لعام 1996 الذي ربط بين النمو الاقتصادي و التنمية البشرية بحيث يكون النمو وسيلة و التنمية غاية،مع التأكيد في ذات السياق على أهمية المشاركة بين الحكومات و مؤسسات القطاع الخاص و منظمات العمل المدني في إنجاز عملية التنمية، يخلق في الأذهان سؤالا بسيطا و شديد الإلحاح حول الزمان و المكان الذي ستتحول فيه الجمعيات (المدنية)في مجتمعنا من مجرد إكسسوار من إكسسوارات صورة المجتمع الحديث إلى قطاع ثالث حقيقي و شريك فعلي لا مغيب في عملية التنمية و البناء،أملين أن لا يطول الانتظار....