لقد ألف الإسلام حين ظهر بين قلوب من اتبعوه و اتخذوه دينا لهم، فجعل منهم جماعة متالفة بعضهم بعضا و ينصره و يؤازره، حتي كان لهم من ذلك يوم ظهروا بمكة و هم قلة مستضعفة، منعة حفظتهم من شرور أعدائهم و قوة أظهرتهم وردت عنهم كيد خصمائهم، ولو لا ذلك لقضي عليهم في مهدهم و انتهي أمرهم في أول عهدهم.
ثم بدا ذلك التآلف بينهم بعد هجرتهم إلي المدينة المنورة أجلي مظهرا و أوسع مجالا و أبعد أثرا، و أشد قوة، بما عقد بين المهاجرين و الأنصار من الأخوة و الولاء و المعاونة في السراء والضراء و المشاركة في الأموال و المناصرة في القتال، و التعاون علي النهوض و الظهور والعمل لنشر دعوة الإسلام، والوصول إلي ذلك الغرض السامي الذي دعاهم إليه دينهم الجديد، و هداهم إلي صراطه رسولهم الصادق الآمين.
و طبيعي أن يؤلف الإسلام بين أتباعه فيجعل منهم أمة قوية متحدة متماسكة أذا ما تمكن من قلوبهم و استولي علي مشاعره و سيطر علي أفكاره ، و ذلك بسبب مايدعوهم اليه من وحدة الفكرة و سمو الغرض، والسعي إلي تحقيق الغاية المنشودة التي لأجلها جاء و لتحقيقها شرع، و ما لهذا الدين من الأثر البالغ في العواطف و المشاعر و الأفكار.
إن إيه فكرة تبدو فيعتنقها من يستصوبها لا تلبث أن تصير جامعة بين أنصارها تربطهم برباطها، و تجمعهم بجامعتها فيعرفون بها، و يتعاونون في سيبل نصرتها و الدفاع عنها، و الدعوة إليها، فما بالك برابطة ينشئها دين قيم يدعو إلي الأيمان بإله واحد، والتوجه إلي وجهة واحدة، والسعي إلي تحقيق غرض سام واحد، يتطلب تحقيقة تعاون من يبتغيه، و مؤازرة بعضهم بعضا، و وقوفهم أمام معارضيهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
دعا الإسلام إلي الوحدة لأنها طبيعته و ركنه الذي تقوم عليه دعوته الدينية العامة الموجهة الي الناس إجمعين. و لقد استجاب لها المسلمون في أول عهدهم فأكسبتهم قوة و عزة و غلبة عزت بها الدعوة الدينية فانتشرت و انتصرت و صدت من عارضها، فتفتحت أمامها الطرق، و اتسع الأفق، و عمت بلاد من كان يعارضها و يدفعها و يقف في طريقها بما كان له من قوة و مال و جاه و رجال.
عني الأسلام كثيرا بتقوية تلك الوحدة، و إحكام تلك الرابطة حتي جعلها أخوة بين المسلمين تمحي فيها الفوارق، و تختفي فيها الطبقات، و يتساوي فيها جميع الأفراد في منازلهم و حقوقهم و واجباتهم، كما يتساوي الأخوة في ذلك من الآسرة الواحدة.
أراد الأسلام إن يجعل لهذه الوحدة و تلك الرابطة ما لرابطة الأخوة من القوة و المكانة و الحرص علي صيانتها، و
البعد بها عن أن تتعرض لمعاولي الهدم و التفريق و أسباب الخصومة و النزاع، فنزل قولة تعالي في سورة الحجرات:
«إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم و اتقوا الله» بينا لمنزلة هذه الرابطة و إيجابا لصيانتها بالإصلاح بين أفرادها إذا ما اشتجر بينهم خلاف، أو عصفت فيهم ريح فرقة، و ليس أدل علي مكانتها من أن يعدها الله نعمة يمتن بها عليهم، و يدعوهم إلي الحرص عليها، و يحذرهم من الفرقة بعد اعتصامهم بها، إذ يقول في سورة آل عمران: «و اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا» و إذا يقول فيها أيضا «ولا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم».
ولو أن المسلمين آمنوا بهذه الآية الإيمان الذي يظهر أثره في نفوسم و أعمالهم و آمنوا كذللك بما نزل في التفرق بسبب اختلاف الدين مثل قوله تعالي: «إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء » ما فرقت بينهم المذاهب الدينية ولا الأهواء السياسية، ولا العصبيات الجنسية، ولا تباعد الأمكنة، ولا اختلاف الأقطار، ولكنهم إذ تركوا دينهم تفرقوا شيعا و تجزءوا أمما، فزالت قوتهم و ذهبت ريحهم، و استولي غيرهم ولن يصلح أمرهم إلا برجوعهم إلي كتابهم و استمساكهم بوحدتهم، ففيها وجودهم و استراداد قوتهم و عزتهم. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.