ودلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بـمثل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانيةً كان في أمتي مثله، إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة»، فقيل له: ما الواحدة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي»(3 ). فكان الصحابة رضي الله عنهم أول جماعة تجمعت في الإسلام، وكان تجمعها على النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم تجمعهم هذا وما اجتمعوا عليه، ولذا فلا شرعية لجماعة المسلمين إلا بـمتابعتها للجماعة الأولى وهي جماعة الصحابة. فظهر بـهذا أن للمسلمين جماعة واحدة، وليست جماعات متعددة، إلا أنه قد شذَّ عنها فرقٌ مختلفةٌ كالخوارج والشيعة التي بدأت في الظهور والتكوين، بسبب ما حدث من خلافات في نـهاية عهد الإمام علي رضي الله عنه، وغير ذلك من الفرق عبر العصور، والمشكلة أن كل فرقة من هذه الفِرَق تَدَّعِي أن مذهبها يُفسِّر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. وكانت العلامة الواضحة التي يُعرَفُ بـها أهل السنة والجماعة؛ هي التجمع حول إمام المسلمين الذي يحكم الأقطار الإسلامية، فلم يكن صعبًا في الـماضي التعرف على جماعة الـمسلمين الواجب لزومها، ولكن بسقوط الخلافة الإسلامية، لم يعد للمسلمين إمام يجمع الجماعة الـمسلمة في كل أقطارها حتى تجتمع عليه، وما استحدث في نُظمِ الدول الحديثة، ومفهوم الدولة القومية أو الوطنية أبعدنا عن هذه العلامة التي كانت تيسر علينا معرفة مَنْ هم جماعة الـمسلمين. ولم يبق لنا من العلامات التي ترشدنا للجماعة الـمسلمة التي يجب لزومها إلا مفهوم الكثرة من المسلمين، والسواد الأعظم الذي اجتمع عليه أغلب الـمسلمين سلفًا وخلفًا، فهذه هي جماعة الـمسلمين التي يجب لزومها. ذلك لأن الأحاديث النبوية صرحت بـهذا الـمفهوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدًا» وقال: «يدُ الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم؛ فإنه من شذَّ شذَّ في النار»( 4). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم»(5 ). الأمر بلزوم الجماعة (أهل السنة والجماعة): أمر الله الأمة الإسلامية بالاجتماع على الحق، ونـهاها عن التفرُّق والاختلاف، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103]، وقال سبحانه: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ -بِكَسْرِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ- جَاهِلِيَّةٌ»(6 ). ويجب التنبه هنا أن الجماعة كانت بوجود الإمام الأعظم (الخليفة) الذي يتولى حكم الأقطار الإسلامية. معنى لزوم الجماعة: والاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيـمان بالله ورسوله في رابطة إيـمانية تتجاوز المكان، بل قد تتجاوز الزمان بالتواصل مع الأمة عبر التاريخ، وتقدير منزلة هذا التاريخ في إطار المرجعية، وهذا نراه أيضًا في أمم وعقائد مختلفة، فما معنى لزوم الجماعة؟ قال الإمام الشافعي في (الرسالة): «قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدًا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة وأبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنًى إلا عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بـما تقول به جماعة المسلمين -أهل السنة والجماعة- فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها»(7 ). أي أنه لم يعتبر الاشتراك في المكان دليلا على الانتماء للجماعة؛ بل يجب إظهار الموالاة لله ورسوله والرضى بـمرجعية الشرع في الأمور على درجاتـها وعلى درجات الأحكام. وعليه فكلُّ مسلم: ليس له أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة (في المنهج الاستدلالي وحجية الأدلة) في اعتقاده وتحليله وتحريـمه. وليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ وسلطانٍ أم لم يكونوا، كما في أوقات الفتن، أي احترام (النظام العام) في كلياته، ولو كان المسلمون أقلية؛ فعلى المسلم اتباع الشرع في أموره مع احترام النظام العام للدولة التي يعيش فيها، والحفاظ على الرابطة الإيـمانية بالأمة عبر الاحتكام للشرع على المستوى الفردي والاجتماعي حتى وإن عاش في ظل نظام قانوني له مرجعية وضعية. بداية الخروج عن جماعة المسلمين: عبر التاريخ الإسلامي ظهرت فِرَق كثيرة في المشرق والمغرب انحرفت وخرجت عن جماعة المسلمين، وبدأ الخروج على جماعة المسلمين بداية إبان الأحداث السياسية والعسكرية بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما؛ حيث ظهرت فرقة شايعت سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفرقة شايعت سيدنا معاوية رضي الله عنه، وفرقة خرجت على من شايعوا الإمام علي بن أبي طالب واتـهموهم بالكفر وهم (الخوارج)، وظلت الأحداث السياسية والعسكرية في تدهور حتى قُتل سيدنا الحسين رضي الله عنه مظلومًا، وخرج أهل المدينة على يزيد بعدما استباحها. خرج أهل السنة والجماعة بعد كل هذه الأحداث بـموقف وسط بين كل تلك الفرق، فهم ليسوا شيعة لسيدنا معاوية رضي الله عنه ولا أتباع شيعته، وإنـما هم أتباع لسيدنا علي ولمعاوية رضي الله عنهما وكل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة يعتبرون أن حُبَّ آل البيت من أعظم القربات، مـمتثلين لقوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى: 23]. وهم أيضًا يحبون جميع الصحابة رضي الله عنهم، ولا تجدهم يحطون من شأن أي واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وأن موقفهم من الخلافات السياسية التي حدثت بين الصحابة هو التعامل معها بـما يرشدنا إليه قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:134] فلا يقفوا منهم موقف الْحَكَم. نشأة الجماعات الإسلامية في العصر الحديث: في العصر الحديث نشأت الجماعات الإسلامية المعاصرة بعد سقوط الخلافة الإسلامية وتفكيكها إلى دويلات، أصبحت كل دولة لها حدود جغرافية تعزلها عن حدود الدول الأخرى، فقامت في هذه الدول جماعات مختلفة قد أحزنـها غياب جماعة المسلمين تحت إمام واحد، وكانت دعوتـها هي عودة الخلافة الإسلامية، إلا أن الأمر تطور وأحسنوا الظن بأنفسهم وأساءوا الظن بغيرهم، فلم يروا أن أحدًا مؤهلا لهذا الأمر إلا هم، ولذا فكانت تنادي لنفسها هي بالخلافة ولأمرائها. وهنا حدثت الفرقة والتشرذم ووقع الخلاف والشقاق بين صفوف جماعة المسلمين، فكل يريد أن يستقطب جماهير الناس خلفه، وبدأت بعض هذه الجماعات بإنشاء جناح عسكري لها، وخرجوا على حكومات تلك الدول الإسلامية التي أقرت الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًّا للتشريع في البلاد. فقالوا بكفر هذه الحكومات والأنظمة! وزعموا أنـها تحكم بغير ما أنزل الله، وذلك لغياب تطبيق الحدود في القانون الجنائي لكثير من الدول الإسلامية. واعتبرت تلك الجماعات أنفسها أنظمة مستقلة ولها إمام، وعقدت الولاء والمبايعة لقوادها، وكان هذا هو أساس الانتماء والولاء، فهم بكل هذه الأشياء خرجوا عن جماعة المسلمين التي أمرنا الله عز وجل لزومها وعدم الخروج عنها، وهم السواد الأعظم من المسلمين. وهذا الانحراف جاء من الخروج عن المرجعية، والخروج عن المرجعية سببه المشارب والأهواء والمصالح التي تكون في أيدي قُوَّاد الجماعات أو عموم الناس الذين لا يعرفون من أين يأخذون دينهم. وهذه الجماعات عبر التاريخ، إمَّا أن تفصل الناس عن مصادر الشَّرع (الكتاب والسنة)، وإما أن تفصلهم عن علمائهم. فظهر بـهذا أن هذه الفرق والطوائف في العصر الحديث ما هي إلا امتداد إلى إحياء أفكار الخوارج، فهذه الجماعات التي تدعي لأنفسها التأهيل لإقامة الدين وتطبيقه دون غيرها زورًا لا يجوز الانتساب إليها ولا السير على أفكارها؛ لأنـها مخالفة للشرع الحنيف جملة وتفصيلا، فهناك أوامر شرعية تأمرنا بعدم مفارقة الجماعة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»(8 ). وقال أيضًا: «من نزع يدًا من طاعة لم تكن له حجة يوم القيامة ومن مات مفارق الجماعة؛ فإنه يـموت موتة الجاهلية»(9 ). تجمعات داخل جماعة المسلمين: كما أنه ظهر في العالم الإسلامي بعض التجمعات داخل جماعة المسلمين، مثل: الجمعيات الخيرية التي تساعد على جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، وكفالة اليتامى ورعاية الأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه الأعمال تحتاج إلى عمل جماعي يقوم به بعض الأفراد، كل يضع فيه جهده ويبذل وقته في الجانب الذي يوافق إمكانياته ومواهبه وتخصصه. ولا شك أن هذا العمل الجماعي نوع من التعاون والتناصر والتآخي على الحق، ولذا فهو مشروع مرغوب فيه؛ لعموم الأدلة الدالة على فضيلة الجماعة والاتفاق والتعاون. فعَنْ أَبِي مُوسَى أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ(10 ). قوله: (الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ) أي: حال المؤمن في تعاونه مع المؤمن. قَالَ اِبْن بَطَّال في شرح الحديث: «أي: الْمُعَاوَنَة فِي أُمُور الآخِرَة وَكَذَا فِي الأُمُور الْمُبَاحَة مِنْ الدُّنْيَا مَنْدُوب إِلَيْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: (وَاَللَّه فِي عَوْن الْعَبْد مَا دَامَ الْعَبْد فِي عَوْن أَخِيهِ)»(11 ). وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»( 12). قال النووي: «هذه الأحاديث -أي المذكورة سابقًا- صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه»(13 ). فهذه التجمعات طالما كانت ملتزمة بـما عليه أهل السنة والجماعة، ولم تخرج على ما هم عليه، ولم تدعُ إلى مبايعة قوادها والخروج على جماعة المسلمين، فالعمل معهم أمر لا بأس به؛ لأن الأعمال الجماعية لها أثر إيجابي في هذه المجالات من الأعمال الفردية. وأخيرًا نقول: قد تبين لنا مما سبق ذكره أن الشرع الشريف أمرنا بلزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عليها، حتى لو كانت النية صالحة؛ لأن هذا يؤدي إلى الفرقة والتشرذم بين المسلمين، أما التجمعات التي تحدث داخل جماعة المسلمين ويقصد بـها نفع المجتمع مثل جمع الزكاة والأضاحي وكفالة اليتامى وأمور الخير والبر، فلا بأس به؛ لأنه ليس فيه خروج عن جماعة المسلمين. أما غير ذلك من جماعات -لها برامجها السياسية والعسكرية المخالفة للأمة والتي تبايع إمامها حتى على قتال إخوانـهم المسلمين إن صدرت لهم الأوامر بذلك- فلا يجوز الانتماء إليها، سواء انتهجت نـهجًا سياسيًّا وعسكريًّا، أو سياسيًّا قابلا للتطوير العسكري.[center]