لحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فإن هذا البحث يتناول في مجمله الإجابة عن سؤال كبير هو : كيف يتم التوجيه الإسلامي للعلوم التربوية ؟
وهذا الحجم الثقيل للسؤال نابع من ثقل حجم المشكلة التي يتناولها فهي ليست مشكلة محددة المعالم أو بارزة العناصر . وهي ليست من باب الابتكار أو الاختراع ، ولكنها تتناول أكثر العلوم الإنسانية أهمية في تكوين الإنسان وتنمية جوانب شخصيته ، إنها تتناول العلوم التربوية وبخاصة المعاصرة منها التي نشأت وترعرعت في أحضان الفلسفة المادية الإلحادية في الغرب أو في الشرق . تلك الفلسفة التي تحاول جاهدة عن طريق العلوم التربوية ومن خلال المؤسسات التربوية أن تغرس قيم وأخلاقيات المجتمع في نفس الفرد . فالمدرسة الشيوعية قبل انحلالها وتبعية شعوبها للرأسمالية الغربية لا يتضمن منهاجها إلا ما يتفق مع الفكر الماركسي ويستبعد منها ما يتعارض مع النظرية الماركسية وجميع المؤسسات التربوية هناك مسخرة لتنشئة الفرد الماركسي كما رسمته الشيوعية ( عطيفه ، 1407هـ ، ص 12 ) .
والمدرسة في المجتمعات الغربية تعمل ما في وسعها لترسيخ نظرية الديمقراطية النفعية التي لا تقيم للحقائق المطلقة وزناً ، فهي ترى أن الخبرة هي المحك لصدق أو كذب الحقيقة ، فما يؤدي إلى نتائج سارة حق ، وما يؤدي إلى نتائج ضارة باطل لا تهتم به . والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن يصبح الدين باطلاً في المجتمع الذي لا يجني أفراده فوائد منه ( عبد الله ، 1406هـ ، ص 8 ) . ولكن المجتمع المسلم يرفض بوحي من عقيدة الإيمان بالله سبحانه وبكل ما جاء في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة كل تلك النظريات المادية الإلحادية فهو مجتمع له قيمه وله أخلاقياته وله منهج رباني يتجلى من خلاله مفهوم الكون ، والإنسان ، والحياة ، وما بعد الحياة .
وإذا كان الأمر كذلك فما العمل وقد أصبحت هذه الأمة المسلمة عالة على الغرب تستورد منه النظريات التربوية في العلوم المختلفة كما تستورد البضائع الاستهلاكية متنكبة ومعرضة عن الاستنارة بما جاء في المنهـج الرباني ( الوحي ) في تمييز الخبيث من الطيب ثم نبذ الذي يتعارض ولا يتفق مع ما جاء في القرآن والسنة وأخذ الطيب الذي يتفق أو لا يتعارض مع القرآن الكريم والسنة المطهرة وإخضاعه للقيم والأخلاقيات الإسلامية حتى يمكن الإفادة منه في تلبية حاجات المجتمع المسلم وفق المنظور الإسلامي للتربية .
ولكن المتأمل يلاحظ أن أغلب المؤلفات التربوية في البلدان العربية والإسلامية هي إما مؤلفات لمفكرين ومنظرين غربيين نُقلت عنهم مباشرة إلى العربية ، أو هي مؤلفات لمؤلفين ومفكرين عرب ومسلمين تبنوا المنهج الفلسفي الغربي القائم على المادية الإلحادية إما عن قصد وإما عن غير قصد .
فمثلاً في علم النفس هناك قصور في فهم علماء النفس الغربيين للنفس الإنسانية حتى أن بعض نظرياتهم في هذا المجال حادت عن الفطرة الصحيحة وساوت بين النفس الإنسانية والحيوان . انظر على سبيل المثال نظرية بافلوف الروسي في التعلم الشرطي التي بدأها بالتجارب على الكلب ثم نقل ما توصل إليه من نتائج إلى ميدان التربية ، وكذلك نظرية ثورندايك في تفسيره لعملية التعلم التي استنتجها من الأبحاث التي أجراها على القطط والفئران والكلاب وبعض القردة والأسماك . كل ذلك وغيره كثير ينقله إلينا من غير تمحيص وتمييز للطيب من الخبيث ومن وجهة النظر الإسلامية علماء ومفكرون مسلمون. ( زيدان ، و السمالوطي ، 1400هـ ، ص ص 98 – 108 ) . وهناك قصور لدى علماء الاجتماع الغربيين الذين فهموا الدين على أساس أنه ظاهرة اجتماعية ومن المؤسف أن بعض العلماء المسلمين الذين كتبوا في هذا المجال قد ساروا على المنهج نفسه دون تمحيص وتمييز يعتمد على المنظور المعرفي الإسلامــي .
وليس الحال في مجالات علم تاريخ التربية وفلسفة التربية بأقل تبعية للغرب ولا بأقل خطورة على التربية والتعليم في العالم الإسلامي بعامة وفي البلاد العربية بخاصة ، الأمر الذي يستوجب وقفة مع هذه العلوم التربوية ، وعرضها على معيار الفكر التربوي الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة المطهرة ثم تمييز الخبيث من الطيب فما كان حسناً أخذنا به واستفدنا منه بقدر ما يلبي حاجاتنا ، وما كان منه خبيثاً استبعدناه وبيَّنا خطأه وعواره ومدى خطورته على الإنسانية بعامة وعلى الفرد والمجتمع المسلم بخاصة .
وبعد هذا الاستعراض لمبررات التوجيه الإسلامي للعلوم التربوية . يقوم الباحث بمحاولة الإجابة عن السؤال محل البحث وهو :-
" كيف يتم التوجيـه الإسلامي للعلوم التربويـة ؟ " .
وذلك من خلال الإجابة عن مجموعة من التساؤلات وهي :
أولاً : ما المقصود بالتوجيه الإسلامي ؟
ثانياً : ما المقصود بالعـلوم التربوية ؟
ثالثاً : ما هـو تعريـف المنهـج ؟
رابعاً : ما هـو مفهـوم العلـم ؟
خامساً : ما العلاقة بين العلم والمعرفـة ؟
سادساً : ما هي مصـادر المعرفـة ؟
سابعاً : ما الاتجاهات السائدة بين علماء المسلمين نحو أسلمة المعرفة ؟
ثامناً : ما هي خطوات أسلمة العلوم التربويـة ؟
أولاً / مـا المقصـود بالتوجـيه الإســلامي ؟
التوجيه في اللغة : شئٌ مُوَجَّهٌ إذا جُعـل على جهـة و احدة لا يختـلف . ويقال : خرج القوم فوجَّهُوا للناس الطريق توجيهاً إذا وطئوه وسلكوه حتى استبان أثر الطريق لمن يسلكه . ( ابن منظور ، 1413هـ ، ص 720 ) . ويتضح لنا من هذا التعريف اللغوي للتوجيه أنه قائم على دعامتين : الأولى : كونه يحدد جهةً واحدةً غير متعددة .
والثانية : وضوح هذه الجهة وضوحاً لا لبس فيه .
وفي ضوء تعريف ابن منظور يُعَّرف الباحث التوجيه الإسلامي للعلوم التربوية بأنه : بيان وإيضاح النظرية التربوية الإسلامية ، وإعداد الدراسات والعلوم التربوية في ضوئها وعرض ما هو موجود منها على معايير النظرية التربوية الإسلامية ، فما كان متوافقاً معها قبلناه وعملنا به ، وما كان مخالفاً لها فهو رد .
وفي الآونة الأخيرة بدأ كثيرٌ من علماء المسلمين في التنبيه إلى ضرورة وجود هذا التوجيه تحت مصطلح " الأسلمة " ، يقول (خليل ، 1401هـ ، ص 15 ) : " تعني ( إسلامية المعرفة ) أو ( أسلمة المعرفة ) ممارسة النشاط المعرفي كشفاً وتجميعاً وتوصيلاً ونشراً من زاوية التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان ". ويضيف موضحاً هذه الأسلمة فيشير إلى أنها لا تنسحب على ما يسـمى بالعـلوم التطبيقية والعلوم الصرفة فقط ، بل تمتد بالضرورة لتشمل دائرة العلوم الإنسانية ؛ لأنها هي المعنية بترتيب وضع الإنسان في العالم وتنظيم حياته مما يجعله قادراًعلى تحقيق مهمته في العالم .
ويستخدم (عطيفة، 1407هـ، ص ص 26 – 27) مصطلح ( أسلمة المناهج) ويعني به وضوح مناهج العلوم من حيث أهدافها ومحتواها وأسـاليب تدريسها وتعلمها وتقويمها في إطار من التصور الإسلامي. ويذكر أن عملية الأسلمة تشتمل على إحدى عمليتين أو كلتيهما وهما :
1- عملية تصحيح المفاهيم والتصورات غير الإسلامية المتضمنة في مناهج العلوم وتوضيح ما فيها من أخطاء بما يتفق مع مبادئ الإسلام .
2- عملية وضوح المفاهيم والتصورات المتضمنة في مناهج العلوم ولا تتعارض مع المبادئ الإسلامية في قالب إسلامي .
أما ( إدريس ، 1408هـ ) فيوضح مفهومه للأسلمة في ثلاث نقاط هي :
1- ترسية العلوم على قواعد الإسلام فنوسع بذلك من مداها ، وننفي عنها الأباطيل المدّثرة بدثار العلم . ونضيف إليها حقائـق جديدة ونرى حقائقها القديمة في ضوء النظرة الجديدة .
2- تحدد تبعاً لذلك مفهوم العلم نفسه ومفهوم الحقيقة والمنهج العلمي وعلاقة العلوم التجريبية والعقلية بالعلوم النقلية الملقاة من عند الله .
3- الالتزام بالقيم الإسلامية في البحث عن الحقيقة ، وفي اختيار مجالات البحث ، وفي كيفية استعمال النتائج العلمية . فالعلوم المؤسلمة ليست علوماً صادف أن كانت مصطبغة بنوع من التميز اسمه الإسلام .كلا وإنما هي العلم الذي يساعد على الترقي الروحي والمادي للإنسان .
والملاحظ في المفهوم السابق للأسلمة تقديمه للفقرة الأولى قبل تحقيق الفقرتين التاليتين ، والعجيب أنه جعل تحديد مفهوم العلم والحقيقة والمنهج العلمي وعلاقة العلوم التجريبية بالعلوم النقلية تبعاً لترسية العلوم على قواعد الإسلام!!
ثانياً / مـا المقصـود بالعـلوم التربويـة ؟
هل هي علم التربية أم العلوم التربوية ؟ وهل هي علم مستقل بذاته أم هي مجموعة من النظريات والمبادئ والقواعد المستمدة من علوم أخرى ؟
يطرح ( عبد الله ، 1406هـ ، ص 11 ) هذه الإشكالية ثم يقف في صف من ينكرون وجود علم تربوي مستقل بذاته ويبررون وجهة نظرهم هذه بأن وجود قواعد معينة في ميدان التربية لا يعتبر دليلاً كافياً على الاستقلال طالما أن تلك القواعد والمبادئ مأخوذة من علوم أخرى مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة ونحوها .
ولكن الباحث يرى أنه يمكن اعتبار العلوم التربوية علماً تربوياً قائماً بذاته متى وجدت النظرية التربوية الإسـلامية التي يمارس هذا العلم وفقاً لها ؛ فكما أن علم الفقه - الذي يستمد أحكامه من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويعتمد في بناء أحكامه على علوم أخرى مثل أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث، والقواعد الفقهية ونحوها - يُعد علماً قائماً بذاته ، فإن علم التربية الذي يستمد مبادئه وقواعده من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ويعتمد في بيان هذه المبادئ وفهمها على علوم أخرى مثل التاريخ ، و الفلسفة ، وعلم الاجتماع ، وعلم النفس وغيرها ، يعد أيضاً علماً قائماً بذاته له أصوله وغاياته وقواعده ومعاييره الخاصة به .
ثم إن ما تُسهم به العلوم المختلفة في بيان فهمنا وتعميق قدرتنا على تحقيق الأهداف التربوية على مستوى الفرد أو المجتمع أو الأمة يمكن أن يضاف إلى علم التربية فيكون جزءاً من التربية . فنقول : التاريخ التربوي ، وعلم النفس التربوي ، وعلم الاجتماع التربوي ، وفلسفة التربية . ولا يعني ذلك إلغاء صفة التربوية عن العلوم والمعارف الشرعية والإنسانية والتطبيقية التي يتضمنها المنهج التربوي ولها أثر في توجيه سلوك الإنسان وتنمية قدراته وتطوير مهاراته ، لكنها تظل علوماً في إطار المحتوى المعرفي للمنهج التربوي الذي يصمم في ضوء معايير العلوم التربوية في إطار منظومة النظرية التربوية .
ثالثاً / ما تعـريف المنهـج ؟
المنهج في اللغة : منهاج ، وجمعه مناهج ، وهو الطريق الواضح . (المعجم الوسيط، ص 957). والنَّهجُ : الطريق المستقيم . ( ابن منظور، 1413هـ ، ص 652 ) . إذاً المنهج في اللغة هو الطريق الواضح المستقيم . قال الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً [ المائدة : 48] أي لكل قوم جعلنا طريقاً إلى الحق يؤمه وسبيلاً واضحاً يعمل به. ( الطبري، 1400هـ، ص 174) . وفي ضوء التعريف اللغوي للمنهج يمكن الحديث عن مفهومين للمنهج في الاصطلاح وبيان المقصود بكلٍ منهما إسلامياً :
أولاً: المنهج التربوي (التعليمي) :وله في الدراسات والأبحاث التربوية مفهومان : أحدهما يُعَرَّف بأنه : " المادة الدراسية التي تتناول أكبر قدر من المعرفة والمعلومات والحقائق " . وهو ما يطلق عليه مفهوم المنهج القديم .
والآخر يُعَرَّف بأنه : " القالب التربـوي الذي يوفر فرص نمو خبرة المتعلم من خلال الحصول على المعلومات المنظمة، واكتساب المهارات والاتجاهات اللازمة للنمو المتكامل "، وهو ما يطلق عليه مفهوم المنهج الحديث . ( فرحان وآخرون ، 1404هـ ، ص 12 ) .
ويؤخذ على تعريف المنهج بمفهومه الضيق أنه يركز على المادة الدراسية المزدحمة بالمعلومات والموضوعات دون الاهتمام بتطبيقاتها الحياتية . ويعتبر هذا المفهوم نقل المعلومات الدراسية إلى عقل المتعلم هدفاً أسمى للتربية (فرحان وآخرون 1404هـ ، ص 11 ) .كما يؤخذ عليه تقييده لحرية المعلم إذ لا يستطيع تعدي مجال شرح الدروس وتحفيظها وتسميعها بعيداً عن الاجتهاد والابتكار الذي يلائمه تعدد الأهداف التربوية لا حصرها . وهذا المفهوم الضيق للمنهج يؤدي إلى عُزلةٍ كبيرةٍ بين المدرسة والحياة ، فالمدرسة مهتمةٌ بتحفيظ ما في الكتب من موضوعات بعيداً عما تحتاجه الحياة التي يعيش فيها المتعلمون من مهارات وخبرات . ( سرحان ، 1403هـ ، ص ص 13 – 14 ) .
أما المنهج بمفهومه الواسع فيمتاز عليه باهتمامه بالمتعلم وحاجاته دون إهمال المادة الدراسية ومتطلباتها ، وأنه يعالج ازدياد تراكم المعرفة بإعادة تنظيم محتوى المنهج وفقاً للحاجات المستجدة دون إضافة مواد جديدة ، ويركز على طريقة الوصول إلى المعلومات في مصادرها ، وإتقان مهارات التعلم والتفكير والمهارات العلمية. ونمو المتعلم المتكامل إلى أقصى حدٍ ممكن هو الهدف الأسمى للتربية . ( سرحان ، 1403هـ ، ص 12 ) .
أما الباحث فيُعَرِّف المنهج بأنه الطريقة التي يتم من خلالها التفاعل بين وسائل الإدراك ومصادر المعرفة بشقيها النقلية والعقلية ، وتنمية جوانب النفس العقلية، والروحية ، والانفعالية ، والاجتماعية ، والجسمية .من خلال الخبرات والأنشطة التعليمية المتعددة؛ لإيجاد الإنسان المؤمن بالله ظاهراً وباطناً،قولاً وعملاً .
ثانياً : المنهج العلمي : الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة ويظهر جلياً الاختلاف بين المفهوم الإسلامي وغير الإسلامي للمنهج العلمي إذ يركز المفهوم الغربي للمنهج العلمي على الجوانب التجريبية للمعرفة بغية الوصول إلى الحلول المناسبة لمشكلات الإنسان الحياتية في إطار نظرة جزئية للوجود . ولعل ( فان دالين ، 1984م ، ص 1)قد نقل وجهة نظر الفلسفة الغربية في تعريفها للمنهج العلمي بقوله: " يُعَرَّف الدارسون البحث العلمي بأنه المحاولة الدقيقـة الناقدة للتوصل إلى حلول للمشكلات التي تؤرق البشرية وتحيرها ".
أما من وجهة النظر الإسلامية فيرى (العظم ، 1403هـ ، ص 10 ) أن المنهج " يُعنى عنايةً خاصةً بالعلوم الإنسانية التي أفسدها علينا أعداؤنا عقيدةً، ولغةً، وتاريخاً ، وحضارةً ، كما يُعنى بالعلوم التجريبية الكونية فيربطها بالعقيدة ربطاً واعياً محكماً بعيداً عن التنطع الممجوج والتكلف المتبذل. ويبـيَّن ( إدريس ، 1408هـ ) أن المفهوم الإسلامي للمنهج العلمي أوسع وأشمل من المفهوم الغربي الذي يحصر المنهج العلمي في الطرق الإجرائية المسماة بالمنهج التجريبي الذي يسلكه علماء الطبيعة ويحاول تقليدهم فيه علماء المجتمع البشري بمختلف تخصصاتهم .
ويؤكد ( عبدالمتعال، 1411هـ، ص ص 234 – 235 ) أن المنهجية الإسلامية تهدف إلى الجمع بين طرق تحري الحقيقة في العلم وتحقيق المصلحة الاجتماعية في آن واحد ثم يخلص إلى أن المنهجية الإسلامية تربط منذ نشأتها وتطورها بين الإيمان بالله و المعرفة و العلم في أساسها المنطقي والإستقرائي وتحيط هذه المنهجية بمناهج الاستدلال العلمي من ناحية ومنهج الاستدلال على إثبات وجود الله بمظاهر الوجود والحكمة من ناحية أخرى .
رابعاً / ما مفهوم العلم ؟
العلم في اللغة "ضد الجهل ، وعلمت الشيءَ : عرفته. وعلم بالشيء : إذا شَعَرَ به وعَلِمَ الأمر وتعلَّمه : إذا أتقنه " ( ابن منظور ، 1413هـ ، ص 219 ) . وهكذا يرى ابن منظور أن للعلم ثلاثة معانٍ في اللغة هي : المعرفة بالشيء ، والشعور به ، وإتقانه .
وفي ( المعجم الوسيط، ص 624) : " العلم : إدراك الشيء بحقيقته . وهو اليقين . والمعرفة وهو إدراك الكلي والمركب – والمعرفة إدراك الجزئي والبسيط – وهو نور يقذفه الله في قلب من يحب " .
وبناءً على هذه التعريفات اللغوية فإن الباحث يعرف العلم في اللغة بأنه إدراك الشئ الكليّ والمركب على حقيقته ومعرفة كنهه ومعرفة جزئياته عن طريق الوسائل الحسية وتبسيطها بحيث يصبح التفاعل معها وممارسة تطبيقاتها أمراً ميسوراً يمكن إتقانه .
قال النبي صل الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " [متفق عليه] . والفقه هو الفهم فإذا فقـه عمل وأتقن عمله .
أما العلم في الاصطلاح التربوي فله مفهومان مفهوم غربي مادي، ومفهـوم إسلامي أصيل. ويمكن معرفة المفهوم الغربي المادي للعلم مما كتبه (فينكس ، 1982م، ص ص 514 – 517 ) عن مكونات النظرية العلمية السته وهي :
(حب الاستطلاع المعرفي والبحث والاكتشاف، الإيمان بالتقدم ، الثقة بالذكاء ، الإيمان بنظام الطبيعـة ، التواضع ، احترام الدليل ) .
ولو تأملنا مكونات النظرة العلمية الغربية حسبما ذكره ( فينكس ) لأدركنا بعض مميزاتها وسلبياتها التي تجعل مجال الإفادة من المميزات في أضيق الحدود . فمن مميزاتها شـغفها بالاستطلاع المعرفي ، واندفاعها نحو البحث واكتشاف الحلول للمشكلات والجوانب الغامضة وسعيها الحثيث نحو بلوغ أقصى درجات التقدم العلمي. وتقديرها لقيمة العقل في البحث العلمي ، وإيمانها بثبات القوانين والسنن الكونية ، وتواضعها الموضوعي فلا تتعجل الوصول إلى النتائج قبل أوانها ، وكذلك احترامها للدليل العلمي . أما سلبيات النظرة العلمية الغربية فمنها :
تجاهلها للماضي وإعراضها عنه ، الإفراط في تقدير قيمة العقل في النظرة العلمية ، وكذلك عدم احترامهم إلا الدليل المادي المحسوس المشاهد وأما الأدلة القائمة على العاطفة أو البلاغة اللفظية أو القاعدة الشعبية أو الشهرة القديمة أو الثروة أو القوة فهي مرفوضة . وهذا يعني أنهم يستبعدون الحقائق في عالم الغيب التي جاءت بها الأديان السماوية . وهم بهذه النظرة العلمية قد حققوا ما يصطلح عليه ( علمنة العلوم ) ، ولقد تأثر معظم العلماء الغربيين في ميادين علم النفس وعلم الإجتماع بهذا الاتجاه فدعوا إلى علمنة العلوم الإجتماعية والنفسية ، وقد انتقلت عدوى تقليد العلوم الطبيعية إلى المشتغلين بالتربية في العالم الإسلامي فدعا بعضهم إلى تسويد الاتجاه العلمي عند النظر في المشكلات المرتبطة بالإنسان "( عبد الله ، 1406هـ، ص 1).
أما المفهوم الإسلامي الأصيل فهو يشترك مع المفهوم الغربي في ما يُعد إيجابياً - من وجهة نظر الباحث- ويزيد على ذلك بأنه يهدف في غايته إلى غرس الإيمان بالله في النفوس ، فالعلم في الإسلام مرتبط بالله سبحانه.
والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وإن اختلفت منهجية البحث في كل منهما إلا أنهما يسهمان في تحقيق العبودية المطلقة لله عز وجل. يقول (عطيفة، 1407هـ ، ص 31 ) : " يمكن القول بأن للعلم في الإسلام مفهوماً أوسع من المفهوم الشائع لدينا [ يقصد المفهوم الغربي الشائع في البلاد الإسلامية ] والمبني على الحواس والتجارب والعقل فقط . ذلك بأنه يتضمن أيضاً العلم الغيبي ، ويعني ذلك أننا يجب أن نعي المفهوم الإسلامي للعلم بشقيه المادي الظاهر والغيبي غير الظاهر ".
وبناءًً على هذا المفهوم الإسلامي الواسع للعلم فإنه يمكن تقسيم العلم بحسب الوسيلة التي نتوصل من خلالها إلى العلم بحقيقة الشيء وكنهه إلى ثلاثة أقسام هي :
1 - علم نتوصل إليه عن طريق الوحي ما كان لنا أن نعرفه لولا أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا به في القرآن الكريم أو على لسان نبيه الكريم . وهي أخبار بعضها قد حدث في الماضي ، كأخبار الأمم والرسالات ونحو ذلك ، وبعضها مما يحدث في المستقبل كأخبار البعث والقيامة والحشر والحساب والجنة والنار وغيره .
2- علم نتوصل إليه عن طريق الحواس والتجربة .
3- علم نتوصل إليه عن طريق العقل . ومنه قوله تعالى : هو الذي جعل الشــمس ضياءً والقمـر نوراً وقدّره منـازل لتعلموا عــدد الســنين والحسـاب [ يونس : 5] . وعلم الأعداد هنا عملية حسابية عقلية .
خامساً / العلاقة بين العلم والمعرفة :
هل المعرفة هي العلم ؟ أم أنهما مترادفان في المعنى ؟ أم أن أحدهما نابع من الآخر؟
تم فيما سبق تعريف العلم ومفهومه في اللغة والاصطلاح . أما المعرفة في اللغة فقد جاء في مادة عَرَفَ : العرفان ، العلم . والعريف والعارف بمعنى مثل عليم وعالم. وعرّفه الأمر: أعلمه إياه، وعرّفه بيته: أعلمه بمكانه، والتعريف الإعلام، والمعروف ضد المنكر. يقول : ( الزنيدي ، 1412هـ ، ص 38 ) : "وبه تكون خلاصة القول أن العلم والمعرفة مترادفان في الإطلاق اللغوي حيث عرٍّف " العلم " بالمعرفة والمعرفة بالعلم كما سـلف ".ويضيف ( الزنيدي، 1412هـ، ص 262) قوله:" العلاقة بين العلم والمعرفة في القرآن الكريم أن العلم أعم وأكمل من المعرفة ولهذا وصف الله نفسه بالعلم دون المعرفة التي هي: إدراك قاصر– بالنسبة للعلم – وسيلتها التفكير والتعقل ".
فإذا كان العلم أشمل وأعم من المعرفة وأن المعرفة لا تكون إلا بعد سابق علم فهل ما نمارسه في مؤسساتنا التربوية وما تحتويه المناهج الدراسية على وجـه التحقيـق يعد علماً أم معرفة يقول (العمرو، 1411هـ، ص 16): " المعرفة يقصد بها : كل نشاط إنساني هادف منظم يستند إلى علم شـامل يهـدي للإيمـان بالله ويتبعه عمل يتناسب مع مقتضيات ذلك الإيمان" .
ويقول (أبو حديبة، 1395هـ، ص 32) : " للمعرفة في الإسلام هدفان هما : العمل والإيمان ، فالعمل لأن المعرفة كسب وفعالية واستغلال للإمكانات المتاحة والإيمان لأن اليقين ينتج عن المعرفة ويُدعم بها " . وعلى ذلك تكون محتويات المنهاج المدرسي معارف مبنية على علم أشمل وأوسع من مفهوم المعرفة .
سادساً / ما هي مصـادر المعرفـة ؟
إن ميدان المعرفة – في المفهوم الإسلامي – أشمل منه في أي فلسفة أو منهج بشري قديم أو حديث ؛ فهي تشمل عالم الشهادة ، وهو العالم المحسوس المشهود بكل محتوياته . وتشمل عالم الغيب ، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يقع ضمن إمكانات العقل البشري .( العمرو ، 1411هـ ، ص ص 25 - 26 ) .
وقد اختلف الباحثون والمفكرون الذين كتبوا حول مصادر المعرفة في تحديدها وتصنيفها . فمنهم من لم يفرق بين مصدر المعرفة ووسائل إدراكها . ومنهم من لم يفرق بين مصدر المعرفة وميادينها . ويكتفي الباحث بإستقراء ثلاثة آراء تمثل ثلاث وجهات نظر في تحديد مصادر المعرفة ، وهي كما يلي :
الرأي الأول : يرى ( العمرو، 1411هـ ، ص ص 66 - 68 ) أن شمولية المعرفة لهذين الميدانين الكبيرين ( أي الغيب والشهادة ) يستلزم تبعاً لذلك تعدد مصادر المعرفة التي نستقي منها معارفنا عن هذه العوالم . ثم حدَّد تبعاً لذلك ثلاثة مصادر رئيسة للمعرفة هي : الحواس ، والعقل ، والوحي .
الرأي الثاني : قسَّم ( إدريس ، 1408هـ ) مصادر المعرفة إلى قسمين هما :
أ - مصادر أساسية : وهي الوحي والكون .
ب- مصادر فرعية : تنبثق من وسائل إدراك المعرفة الحواس والعقل . وهي : ( الكون المادي أو المحسوس ، الأحوال النفسية الداخليـة ، البشر من حيث هم معلمون ، الرؤى الصالحة ، العقل من حيث توافقه مع الفطرة .
الرأي الثالث : يتميز في هذا الرأي ثلاثة جوانب بارزة في موضوع المعرفة وهي : المصدر ، والميدان ، والأدوات . ويفصلها ( الكيلاني ، 1409هـ ، ص ص 222- 232 ) على النحو التالي :
1 - مصدر المعرفة : مصدر المعرفة هو الله سبحانه وتعالى . وقد استدل على ذلك بقوله تعالى : قل إنما العلم عند الله [ الملك: 26 ] .
2 - ميدان المعرفة: يُقسَّم ميدان المعرفة إلى قسمين رئيسين هما: ميـدان الغيـب وموضوعه الله سبحانه وتعالى ، والملائكة ، وما قبل الحياة ، وما بعدها . وميدان الشهادة وموضوعه كامل الوجود الذي يمكن مشاهدته بكلياته وجزئياته .
3 - أدوات المعرفة : يحدد أدوات المعرفة – في التربية الإسلامية – في ثـلاث
أدوات هي : الوحي ومجاله ميدان الغيب ، والعقل والحس ومجالهما ميدان الشهادة [ الآفاق والنفس ] . وتتكامل هذه الأدوات الثلاث في نظـام دقيق متوازن في بلوغ المعرفة المنشودة .
ويجد الباحث في نفسه ميلاً إلى هذا التعريف الأخير الذي كان دقيقاً في رسم مفاهيم واضحة لمجالات المعرفة الثلاثة .
سابعاً / الاتجاهـات نحو أسـلمة العـلوم والمعارف :
لمَّا كانت أسلمة العـلوم تعني تنقيتها من الأفكار والآراء التي تتعارض مع قواعد الإسلام وأصوله . فقد نشط لذلك بعض المفكرين المسلمين الذين يسعون إلى تحقيق هذا الهدف السامي ، ولكن الطريق إلى ذلك لم يكن يسيراً فمنهم من كان مندفعاً ومتعجلاً ، ومنهم من وجهت إليه وإلى منهجه الفكري سهام المحاربين والمخالفين للإسلام، ومنهم من يتحرك في توازن حذر. ولعل تصنيف (بدري، 1407هـ ، ص ص 6 – 11 ) لأحوال المفكرين العاملين في مجال أسلمة علم النفس ينطبق على غيرهم من العلماء العاملين في مجال أسلمة العلوم الأخرى فقد صنفهم إلى فئات ثلاث هي :
الفئة الأولى: تيار متطرف يرفض وجود شئ اسمه "علم نفس إسلامي" ويدعي عدم وجود حاجة للتأصيل الإسلامي لعلم النفس أو غيره من العلوم الإنسانية الأخرى ؛ فعلم النفس علم تجريبـي وعلى أساس هذا المفهوم تسقط الأسلمة . ثم يُقَسِّم هؤلاء الرافضين للأسلمة إلى طائفتين ، فمنهم الرافضون للأسلمة من المؤمنين الملتزمين بالإسلام وهم الغالبية، ومنهم الرافضون للأسلمة بسبب رفضهم للإسلام نفسه .
فأما الطائفة الأولى فأكثرهم من المتخصصين الذين بنوا أمجادهم العلمية على أساس علم النفس بمناهجه الغربية البحتة . وقد اقتنع هؤلاء بفكرة علمية علم النفس، فحرصوا على إدخال هذا العلم التجريبي بعيداً عن ربطه بالدين . فالأسلمة صعبة في نفوسهم لأنها ستزلزل أركان علمهم الذي وهبوا له المال والجهد حتى أصبحوا متخصصين مرموقين في مجتمعاتهم واكتسبوا تبعاً لذلك المال والشهرة . ولهذا فهم يرفضون فكرة الأسلمة دفاعاً عن مكاسبها المادية والاجتماعية . ولا يخلو الأمر من بعض الصعوبات المتعلقة بمقدرتهم في التعمق في مواد علم النفس الغربي ومناهجه وممارساته لمعرفة الجوانب التي تستند على التجريب ، وتلك القائمة على التصورات الحضارية الغربية . والقدرة على الإلمام بأصول الإسلام ومصادره الأساسية والقدرة على التفكير الإبتكاري الخلاق . والقدرة على الربط بين مقاصد الدين وما هو مقبول في مناهج علم النفس الغربي وممارساته . وقد يكون هناك سبب آخر لرفضهم فكرة الأسلمة وهو موقف التيار المتطرف في الجانب الإسلامي الذي يرى رفض علم النفـس جملة وتفصيلاً الأمر الذي يعمق فيهم الهوة بين علم النفس والدين . ولذلك فهم يحتاجون إلى الدعوة بالرفق واللين والحكمة والحجة والإقناع العلمي . وأما أولئك الرافضون لفكرة الأسلمة من منطلق رفضهم للإسلام نفسه فلا بأس من مواجهتهم والتشدد معهم .
الفئة الثانية : تيار متطرف آخر يرفض علم النفس الحديث بحجة أنه وليد شرعي للحضارة الغربية الكافرة ، وأن التمسك بالدين الإسلامي يكفل عدم الحاجة إلى هذا المسخ الأكاديمي . ويرون إمكانية وجود - علم نفس إسلامي - مستمد من القرآن والسنة وأفكار السلف الصالح .
ولكن غالبية هذه الفئة ليسوا من المتخصصين في علم النفس . ويشكر لهم حماسهم الديني وغيرتهم على الإسلام وحرصهم على إعلاء كلمة الله . ولكن لأن القرآن الكريم أو السنة المطهرة ليسا مبحثين متخصصين في موضوع بعينه ، وأن في الإنسان جوانب في سلوكه وتصرفاته تختلف باختلاف الزمان والمكان وليس لها في القرآن الكريم أو السنة حلاً مباشراً إذ تقع مسؤولية دراستها التفصيلية على العلماء في كل زمان أو مكان في ضوء الكتاب والسنة . ثم إن علم النفس الحديث في الغرب الذي أهمل الجانب الروحي تقدم بصورة مذهلة في دراسة الجانب الحيوي والنفسي والاجتماعي في الإنسان . ولأن الإنسان ليس كله روح فإنه يمكن الاستفادة من النتائج المعتمدة على التجارب بل لا يمكن لأي أمة معاصرة الاستغناء عنها .
الفئة الثالثة : وهي ذات الاتجاه الوسط المعتدل الذي يعترف لعلم النفس العلمي التجريبي بأهميته وفوائده الجليلة . ولكنه لا ينسى ما لهذا العلم المعاصر من نقائص - ولا سيما تلك التي تتعلق بالدراسات التجريبية المخبرية أو الميدانية - لتأثره بالحضارة الغربية وفكرتها عن الإنسان والكون وغيرهما .
إن هذا الأمر يدعونا إلى الدعوة إلى التأصيل الإسلامي للعلوم المختلفة في ضوء فهمنا للقرآن الكريم والسنة المطهرة وتوجهات السلف الصالح .
ثامناً / ما معايير أسلمة العلوم التربوية ؟
تم فيما تقدم بيـان وتحديد بعض المفاهيم ذات العلاقة بأسلمة العلوم التربوية، فإذا كانت هذه المفاهيم قد اتضحت فإن هناك معايير لا بد من توافرها فيمن يتصدى لأسلمة العلوم بعامة والعلوم التربوية بصفة خاصة وهي:
1
الاســــــــــــــــــــــــــــــــم : شيماء على حسين حفنى
قســـــــــــــــــــــــــــــــــــم : لغة عربية