فنِعمُ الله عز وجل علينا ـ أمة الإسلام ـ كثيرة، وآلاؤه علينا متتابعة، بيد أنّ أجلّها على الإطلاق نعمة الهداية لهذا الدين بما خصّ الله به أمة الإسلام على سائر الأمم، فدينها خاتم الأديان الذي لن يقبل الله من عبد سواه، وكتابها خير الكتب جعله الله مهيمنًا على ما سبقه من الكتب، محفوظًا بحفظ الله من العبث والزيادة والنقصان، ونبيها خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وخليل رب العالمين.
وممـا زادني شـرفًا وتيـهًا وكدتُّ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيًّـا
إخوة الإسلام، اصطفى الله محمدًا من بين الخلائق لحمل رسالته، وبعثه عز وجل إلى الثقلين بالهدى ودين الحق، فوضع به الأغلال والآصار، ورفع به الغشاوة عن الأبصار، واستنقذ به الخلائق من عذاب النار. فكم فتح الله به أعينًا عميًا وآذانًا غُلفًا، وكم شرح الله ببعثته الصدور، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور.
فحمل على عاتقه عبء الرسالة، وبلَّغ الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، فما ادّخر وُسعا في دعوة البشرية وهدايتها إلى صراط الله المستقيم، ولم يأل جهدًا في نصح أمته عليه الصلاة والسلام ودلالتها على خير ما يعلمه لهم، ولم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى تركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، واستنقطهم: “ألا هل بلّغت؟” ثم استشهد عليهم ربهم: “اللهم فاشهد”. فحقٌ له أن يشرح الله له صدره، ويضع عنه وزره، ويرفع له ذكره. قال مجاهد: “لا أُذكر إلا ذُكرتَ معي”: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وقال حسان :
وشق له من اسْمه ليُجلَّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
معشر المسلمين، لقد أعلى الله مقام نبيه ومصطفاه، ورفع قدره، وحمى جنابه أن يُمسّ بسوء، فليس يحطّ منه أو يدنّسه أو ينتقص من قدره قدر شعرة أحدٌ من خلق الله أجمعين.
كناطح صخرةً يومًا ليوهنها فلم يَضِرْها وأوهى قرنه الوعِلُ
أو كنافخٍ بملء رئتَيه ليطفئ نورَ الشمس لم يتجاوز نفخُه أنفَه ومنخرَيه، أو كباصقٍ على السماء إنما يعودُ بصاقه بين عينيه.
كيف وقد تولى الله أمره عليه الصلاة السلام: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة:67]، وتكفّل له ذو العرش بكفايته ممن تعرّض له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]؟! فما ضره يومًا من الدهر انتقاص الحاسدين وشتم الحاقدين وشنآن المبغضين، إنما يرجع أولئك بالخزي والنكال، هذا حكم الله في كل مبغضٍ مؤذٍ لرسول الله : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] أي: هو المقطوع المنبوذ.
وعلى مرّ التاريخ بدءًا بكفار قريش وانتهاءً بعباد الصليب الحاقدين المعاصرين تبرز شرذمة مشؤومة، ضاقت صدورها برسول الهدى والنور، فلم تسعها الرحمة التي حملها بين كفيه للبشرية، ولم تأنس بنور الهداية الذي بُعث به للبرية، فلست تدري ممّ ضاقت به تلك الصدور المظلمة؟! أمن كريم خُلقه وجميل خصاله وسموّ شمائله وطيب سيرته التي طبقت الآفاق، أم من رأفته وشفقته ورحمته ولين قلبه عليه الصلاة والسلام، أم من عدله وإنصافه مع الموافق والمخالف على حدٍ سواء؟!
وإلى لقاااااااء