قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء أحياء في قبورهم»
.
ولكن هل هذه الحياة في القبور حياة حقيقية لها لوازمها من الحاجة إلى الأكل والشرب وفعلهما، والنوم والحركة وغيرها، أم أنها حياة خاصة يقصد بها تشريف الأنبياء، وتخصيصهم عن غيرهم بمنزلة لم تكن لغيرهم؟.
أقول بادئ الأمر: إن الله سبحانه وتعالى قد أخبر وأثبت في كتابه العزيز موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30] .
وقال: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144] ، وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] .
وقام أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) (347).
فموت الأنبياء حق، وانقطاع أحكام الدنيا عنهم بعد موتهم لا مرية فيه، حتى المخالف يقر بذلك، ولكن ما هذه الحياة البرزخية التي تكون للأنبياء بعد موتهم؟
بعد معرفتنا أن الأنبياء يموتون، وأن أحكام الدنيا لا يقومون بها بعد موتهم.
إن الحديث عن البرزخ من علم الغيب، والحديث عن تفصيلات تعلق الروح بالبدن في البرزخ هو من علم الغيب - أيضاً -، ما لم يرد نص صحيح صريح يبين هذه التفصيلات ويذكرها لنا، وإلا فالتوقف هو المنهج السوي، ورد العلم إلى عالمه أسلم وأعلم وأحكم.
لكن أهل العلم ذكروا أن للروح مع البدن تعلقات بحسب أحوالها:
أحدها: تعلق الروح بالبدن في بطن الأم للجنين.
الثاني: تعلق الروح بالبدن بعد خروجه إلى وجه الأرض مستيقظاً.
الثالث: تعلق الروح بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلق الروح بالبدن في البرزخ - وهذا ما نحن نبحث فيه -، فإن الروح إذا فارقت البدن بالموت وتجردت عنه، فإنها لا تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة، بل الأحاديث والآثار تدل على أن الميت ترد روحه وقت سلام المسلم عليه، وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن إلى يوم القيامة.
وحياة الشهداء في هذه المرحلة أكمل من حياة غيرهم من سائر المؤمنين، وحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء.
الخامس: تعلق الروح بالبدن يوم البعث، وهذا أكمل أنواع تعلق الروح بالبدن، فهو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً (348).
فأرواح الأنبياء في البرزخ في أعلى عليين، وهم متفاوتون في منازلهم في العلو، إلا أن أرواحهم لها تعلق بأجسادهم وأبدانهم، فترد إليها إذا سلم عليهم المسلم ليردوا عليها السلام (349).
وبعد ذلك يمكن أن يجاب على من قال بأنه صلّى الله عليه وسلّم حي حياة في قبره كحياته الدنيوية بأجوبة عدة منها:
1 - أن من زعم أن الحياة البرزخية كالحياة الدنيا فقد كذب وظلم، فمن أبرز الفروق بين حياة البرزخ، وحياة الدنيا، أن الحي في الدنيا يحتاج إلى الأكل والشرب، والحركة والسكون، والنوم واليقظة، والكلام والرد، والأخذ والإعطاء، وكل هذا منتف في الحياة البرزخية، وأما إذا استثنى أولئك هذه الأمور فنقول: إن التخصيص لا بد له من مخصص، فلا بد من دليل يخرج هذا الفرع عن أصله، والبعض عن كلِّه ولا دليل لهم.
2 - لو كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم حياً حياة كحياته الدنيوية لما ساغ له أن يبقى تحت الأرض، ولكنها سنة الله في الموتى، فلما انتفت الحياة الحقيقية بالموت ثبتت الحياة البرزخية مباشرة.
3 - يلزم من القول بحياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حياة كحياته في الدنيا أن يبقى يسمع أصحابه يختلفون في كثير من الأمور، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم عاجز عن النطق وعن رد الجواب لمن سأله متلهفاً على سماع ذلك منه، وهذا وصف له بالنقص والعجز.
4 - يلزم من القول بحياة الأنبياء كحياتهم الدنيوية، أن يكون لهم ثلاث موتات، ولغيرهم موتتان؛ لأنه بعد النفخ في الصور النفخة الأولى لا يبقى أحد ممن هو على وجه الأرض حياً، وقد قال تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، ولم يرد دليل من الكتاب والسنة على أن الله يبعث النبي للناس من قبره قبل يوم القيامة.
5 - يلزم من القول بحياة الأنبياء حياة كالحياة الدنيوية تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أقواله، ومثال ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (350).
6 - ومما يلزم من ذلك - أيضاً -: تكذيب الصحابة في إقرارهم وتصديقهم بموت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم دفنوه حياً، وأنه عليه الصلاة والسلام قد جنى على نفسه حين مكنهم من نفسه وهو حي قادر على البيان والبلاغ.
7 - أما من استدل على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن عقد نكاحه على أزواجه باق، بحيث لا يجوز لأحد أن يتزوج منهن، فهذا ليس فيه دليل على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قبره، بل ذلك خصوصية له صلّى الله عليه وسلّم حيث حرم على المؤمنين أن ينكحوا أزواجه من بعده كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] ، وقوله: { مِنْ بَعْدِهِ} دليل على موته وقد أمر الله رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يخير أزواجه بين أن يبقين معه ويردن الله ورسوله والدار الآخرة، وبين أن يقدمن الحياة الدنيا وزينتها، فيفارقنه فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكان جزاؤهن أن يكن أمهات المؤمنين في الدنيا، وأزواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة فلا يحل لأحد من المؤمنين أن ينكحهن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب: 28 - 29] .
8 - وأما من قال بأن رد السلام من شأن الأحياء؛ لأن شأن الأموات حين ترد روح الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليه، فيجاب عنه بأن هذا حجة عليهم لا لهم؛ لأن رد الروح مفاده قبضها قبل ذلك، ثم إن رد الروح إنما هو بقدر رد السلام على من سلم عليه، وهذا ليس من خصائص الرسول صلّى الله عليه وسلّم بل هو عام لكل من سلم على أحد قبور الموتى من المؤمنين (351).
وعلى كلٍ: فالرسول صلّى الله عليه وسلّم حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عزّ وجل وهذه الحياة أكمل من حياة الشهداء.