بقلم: د. محمد الخضري سعد الدين
د. محمد الخضري سعد الدين
الطالب الموهوب ثروة بشرية كامنة، تضاهي في أهميتها أية ثروة أخرى، وبالتالي يعتبر اكتشاف هذه الثروة وتنميتها واجبًا دينيًّا ووطنيًّا وأخلاقيًّا، وأي تقصير أو إهمال في استغلال هذه الثروة يعتبر كارثةً بكل معنى الكلمة، فيجب أن تكون رعاية الموهوبين من الأولويات وليست من العناوين المدرجة على جدول الأعمال، والهدف إعداد قيادات للأمة في مجالات شتَّى من مجالات الحياة.
نظر الإسلام للموهبة على أنها عطية ونعمة من الله يجب على المسلم أن يؤدِّي شكرها؛ ومن هنا ظهرت كفاءات ومواهب سامقة في تاريخ أمتنا المجيد، أنارت فاهتدت وهدت، وإذا دقَّقنا النظر في تاريخ الأمم والحضارات لم نجد أمةً ظهرت فيها كل تلك المواهب والقمم مثل أمة الإسلام.
فلقد وجد الموهوبون في ظلِّ دولة الإسلام أرضًا خصبةً لنمو إبداعهم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أصفى الناس بصيرةً، فاستخرج مكنونات وذخائر أصحابه رضي الله عنهم، كلاًّ على قدر طاقاته واستعداده وميوله.
فلولا تربية الرسول صلى الله عليه وسلم تلك ما ظهر صدق الصدِّيق، ولا عدل الفاروق، ولا حياء عثمان، ولا شجاعة علي، ولا حكمة أبي الدرداء، ولا دهاء عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وما كان ليظهر هذا الجيل المتفرِّد إلا برعاية تفجِّر الطاقات وتعلو بالهمم.
وعلى الآباء إذا أرادوا بيئةً إبداعيةً لأبنائهم مراعاة:
1- أن يوفِّروا الحب والتقبُّل والقدوة الحسنة: القدرة على التواصل الجيد مع الأبناء (تنمية مهارة التواصل).
2- أن يوفِّروا في البيت الكتب غير المدرسية: والقواميس والموسوعات وكتب الأطفال والمجلاَّت التي تناسب المرحلة العمرية.
3- توفير فرص القيام برحلات وزيارة المتاحف والمعارض: وكتابة تقارير عن زيارتهم لتلك الأماكن وتقديمها للآباء.
4- أن يفهم الآباء أن الطفل الموهوب ليس بالضرورة موهوبًا في كلِّ المجالات، وفي كلِّ الأوقات: فقد يكون متفوِّقًا في الرياضيات، وعاديًّا في اللغة الأجنبية أو قد يكون موهوبًا في الموسيقى، ولكنه عادي في الرياضة، ومن الملاحظ أن والديّ الطفل الموهوب يمتلكان صورةً مثاليةً نمطيةً للطفل الموهوب، وكأنه كائن خارق، متفوِّق في كلِّ شيء، فيضعان توقعات عالية لأدائه في جميع المجالات.
5- أن يدرك الآباء أن نمو الطفل الموهوب غير متناغم: وعلى الآباء أن يدركوا أن هناك عدم تناغم في نمو الطفل الموهوب، وأن هناك فجوةً بين نموه العقلي ونموه الاجتماعي والعاطفي، وبسبب تفوُّق قدراته العقلية، وحساسيته المفرطة، يصبح لديه عالم داخلي خاص وفريد، ويبدأ يسأل أسئلة عن أسرار الكون والذات الإلهية، وأمورًا مجردة؛ ما يجعل مهمة الوالدين أكثر تحديًا وصعوبة، وهذا يُثير القلق في نفوس الآباء، وخصوصًا أن هذا النوع من التفكير يصاحب مرحلة المراهقة وليس الطفولة، وعلى الآباء أن يفهموا أن الطفل الموهوب يجمع بين عدة أعمار في آنٍ واحد، فقد يكون عمره الزمني 7 سنوات، وعمره العقلي 12 سنةً، وعمره الاجتماعي 5 سنوات، ومن الطبيعي أنه إذا لم يفهموا هذه التركيبة الخاصة لسيكولوجية الطفل الموهوب، فإن التعامل معه سوف يكون صعبًا ومتعبًا.
6- تشجيع الطفل الموهوب على السعي للتميز لا للكمال: يؤكد (كابلان) أن أسرة الطفل الموهوب يجب أن تشجِّع الطفل على السعي للتميز لا للكمال، والمقصود بذلك هو مساعدة الطفل للوصول إلى أقصى ما تسمح به قدراته دون ضغط أو وضع توقعات عالية جدًّا، وكأنه كائن خارق، حتى لا يؤثِّر ذلك على تقديره لذاته؛ لأن مسألة تقدير الذات المتدني هي إحدى شجون الطفل الموهوب وهمومه؛ لذا من المهم تعويده على التعامل مع الإحباط، والبعد عن الحرص الشديد على الكمال، وعلى تقبل أخطائه، وإدراك أن الخطأ هو جزء من الخبرة الإنسانية الواسعة في الحياة والاهتمام بتنمية الذكاء العاطفي للطفل الموهوب.
على الآباء الاهتمام بتنمية الذكاء العاطفي للطفل الموهوب، ويمكن للأسرة أن تعمل على ذلك عن طريق توفير المناخ العاطفي الملائم في الأسرة، الذي يساعد الطفل على التعامل مع مشاعر الإحباط والفشل والقدرة على التعبير عن مشاعر الغضب وتحسس مشكلات الآخرين، وبناء علاقات اجتماعية سليمة مع الآخرين.
7- أن يدرك الآباء أن الطفل الموهوب هو طفل أولاً وموهوب ثانيًا: ينبغي على الآباء عدم حرمان الطفل الموهوب من طفولته، وإعطائه الفرصة كي يعيش مثل غيره من الأطفال، فهو بحاجة إلى تلبية بعض الاحتياجات كاللعب والمرح واللهو؛ لأن الطفل الموهوب له احتياجات جسمية وعاطفية واجتماعية، مثل بقية الأطفال حتى لو كان مستوى تفكيره يسبقهم بأعوام، وعند توفير الجو المناسب في الأسرة لرعاية موهبته يجب أن يكون ذلك بعيدًا عن ممارسة الضغوط الأسرية، التي تفرض سياجًا من القيود حوله.
8- قبول الطفل الموهوب بأنه مختلف عن بقية الأطفال: "من الضروري على الآباء أن يُدركوا أن الطفل الموهوب يرى أبعد ويشعر أعمق، ويعرف أكثر من أقرانه، وأن يقبلوا فكرة أنه من الطبيعي أن يكون مختلفًا عن بقية الأطفال، وأن يتذمر من الروتين المدرسي الممل، وأن يعتبر الإذعان والقبول نوعًا من الإذلال النفسي، وأن يميل إلى مصاحبة من هو أكبر منه سنًّا، فهو يبحث عن التعقيد والإثارة والتحدِّي، لذا يجب ألا يتعاملوا معه على أساس معايير الطفل العادي، وأن يدركوا أن اختلافه هذا لا يعني أنه شاذ".
9- على الأسرة أن تعمل على ملاحظة الطفل بشكل منتظم: وأن تقوم بطريقة موضوعية وغير متحيزة حتى يمكن اكتشاف مواهبه الحقيقية، والتعرُّف عليها في سنٍّ مبكرة؛ لأن الفشل في ذلك يؤدِّي بالأسرة إلى الوقوع في خطأين هما:
1- المبالغة من الآباء في تقدير مواهب أبنائهم بدافع من حاجاتهم النفسية والشخصية أو الرغبة منهم بالتباهي والتفاخر بأبنائهم، ما يوقع الأبناء في مشاكل متعددة؛ بسبب إلحاح الآباء على ضرورة تحقيق مستويات للتحصيل والتفكير العقلي أعلى بكثير مما يقدر عليه أبناؤهم.
2- يشعر الموهوبون في قرارة أنفسهم بعدم تفهُّم آبائهم لهم وتجاهل مواهبهم وقدراتهم؛ بسبب سوء التقدير، وانعدام الفهم أو بسبب الانشغال بالمصالح الخاصة أو بسبب الجهل في تطوير القدرات؛ ما يدفع إلى الشعور بفشل الموهوب.
10- على الأسرة أن تتعرف على الموهوب في سنٍّ مبكرة ويساعدها في ذلك إتاحة الفرصة لملاحظة أبنائها عن قرب لفترات طويلة خلال مراحل نموهم المتعددة، فللموهوبين سمات عقلية وصفات ذات طابع معروف تميزهم عن غيرهم من باقي الأطفال العاديين في أعمارهم.
12- على الأسرة أن تعامل الطفل الموهوب باتزان، فلا يصبح موضوع سخرية لهم، كما يجب ألا تنقص الأسرة من شأن موهبته أو تسيء استغلالها أو تهملها، ومن جهة أخرى يجب على الأسرة ألا تبالغ في توجيه عبارات الإطراء والاستحسان الزائد عن الحد؛ ما قد يؤدِّي إلى الغرور والشعور بالاستعلاء والتكبُّر.
13- على الأسرة أن تنظر إلى الطفل الموهوب نظرةً شاملةً، فلا يتم التركيز على القدرات العقلية أو المواهب الابتكارية والإبداعية المتميزة فقط، وعلى الأسرة أن تعرف أن على الطفل الموهوب أن يمارس أساليب الحياة العادية الطبيعية مثل غيره ممن هم في فئته العمرية.
وقد يحدث في الأسرة بعض الأساليب الخاطئة، كاتجاه الموهوب- منها على سبيل المثال- عندما ينبغ الطفل في فنٍ من الفنون كالرسم أو الألعاب الرياضية تبدأ الأسرة تحيطه بسياج يمنعه من ممارسة النشاطات الطفولية العاديّة المناسبة لسنه، ويبدأ في قضاء معظم وقته مع أناس أكبر منه سنًّا بكثير؛ ليتولُّوا تدريبه ومن هنا تضيع أحلى أيام الطفولة في ممارسة نشاطات الكبار، والتشبُّه بهم في أزيائهم وسلوكهم وطرق معيشتهم وغيرها، وهذا خطأ كبير تقع فيه كثير من الأسر التي لديها أبناء موهوبون.
إن تربية الطفل الموهوب تعتبر تحديًا للأسرة، وقد تكون متعةًَ حقيقيةً في حياة الأسرة إن قامت بدورها كاملاً أو قد تتحول إلى همٍّ كبير في حال غياب هذا الدور، وأهم دور يمكن أن تؤدِّيه الأسرة هو الوعي بالطبيعة الخاصة للطفل الموهوب واحتياجاته، وفهمه فهمًا حقيقيًّا، وإدراك دورها المهم في الكشف عن موهبته، وفي توفير بيئة مثيرة ثقافيًّا، آمنة نفسيًّا للطفل يشعر فيها بالقبول في عالم قد يشعر فيه بالاغتراب النفسي، لكونه مختلفًا عن أقرانه في أمور كثيرة، فيبدو وكأنه آت من كوكب آخر، وقد تعتبر تربية الطفل الموهوب فرصةً للآباء؛ لكي ينموا مع طفلهم؛ لمشاركته في رحلته نحو اكتشاف ذاته والسعي إلى تحقيقها.