بقلم: أحمد سليمان الدبشة
1- وظيفة القرآن:
عندما أراد الحقُّ جلَّ وعلا أن يُعرِّفنا بشهر رمضان كيف عرَّفه لنا؟ عندما أراد الحقُّ جلَّ وعلا أن يصف لنا شهر رمضان بماذا وصفه؟ ما وَصَفَهُ بأنه شهر الصيام، مع أن المسلم يصوم فيه، وما وصفه بأنه شهر القيام مع أن المسلم يقوم فيه، وما وصفه بأنه شهر الإنفاق والصدقة، مع أن المسلم يُنفق ويتصدق فيه؛ لكن الحق جلَّ وعلا عندما أراد أن يُعرِّفنا بشهر رمضان قال عنه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185).
فرمضان هو شهر القرآن؛ فما وظيفة القرآن؟ كما أنَّ لكلِّ واحد منَّا في حياته وظيفة يقوم بها، فإنَّ للقرآن وظيفة يُؤديها؛ فما وظيفة القرآن ومهمته؟ وظيفة القرآن أنه يُطهِّر النفس، ويُزكِّي القلب، ويُنقي الفؤاد، ويُقوِّم السلوك والأخلاق، تدخل إلى القرآن وتخرج بقلب جديد قد تزكَّى بالإيمان.
فينظر الناس إلى سلوكك، وإلى أخلاقك، وإلى تصرفاتك، وإلى بيتك، وإلى زوجك، وإلى أولادك؛ فيقولون هذا مسلم؛ لأن القرآن أثَّر في حياته.
وظيفة القرآن قال عنها الحقُّ جلَّ وعلا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾ (ص).
وظيفة القرآن قال عنها الحقُّ جلَّ وعلا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)﴾ (المائدة)؛ ما وظيفته يا رب قال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة).
وظيفة القرآن قال عنها الحق جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)﴾ (يونس).
2- أثر القرآن في بناء الجيل الفريد على هذا المفهوم:
ربَّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه الكرام، فأخرج في أقل من ربع قرنٍ من الزمان بهذا القرآن من وسط العرب قِممًا فارعة، حوَّلهم من أناس كانوا يرعون الغنم إلى قادة ربوا الأمم، قضوا على النظام العالمي القديم، ضربت أعلى الأمثلة في التفاني في سبيل هذا الحق الذي اتبعوه، يقول شيخنا الجليل العلامة الشيخ محمد الغزالي- عليه رحمة الله-: (نحن نعلم أن المعجزة الكبرى لنبينا- صلى الله عليه وسلم- هي القرآن الكريم، ويرى كثير من المؤرخين المنصفين والمبصرين أن المعجزة التي تلي هذا الكتاب هي "مجموعة الرجال الذين ربَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن تربيتهم، وسكب من قلبه في أفئدتهم من مشاعر اليقين والإخلاص؛ ما جعلهم نماذج حية للإيمان الراسخ، والفداء إلى آخر رمق، إن هذا الجيل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذين حملوا مبادئه، ووفوا لها، وكانوا جسرًا عبرت هدايات السماء عليه إلينا، إن هؤلاء الرجال طراز من الخلق معجز، وفي الحقيقة عندما أقرأ سير الكثيرين منهم أشعر بقصر وتضاؤل، وأُحس أنني أمام قمم ذاهبة في الفضاء عالية لا تُطاول". اهـ.
3- نماذج عملية لأهل القرآن في حروب الرِّدَّة عامة، ومعركة اليمامة خاصة:
ظهرت بطولات فارعة قمعت الباطل وشرفت الحق، وحروب الرِّدة طالت شهورًا، وبذل فيها حملة القرآن- الحقيقيون- بذلوا فيها أنفسهم، ويوم اليمامة كان كله لأهل القرآن، ففي معركة اليمامة هُزم المسلمون في أول الأمر، ودارت المعركة بطريقة مزعجة، حرب بين كر وفر، بين إقبال وإدبار، وأتباع الدجال مسيلمة استبدت بهم عصبية الجاهلية، فهم يستبسلون دونه، ويبذلون أنفسهم حتى لا ينهزموا، والمسلمون يريدون الإجهاز على هذه الخرافة، والانتهاء من هذا الدجل؛ لكن الحرب كانت مدًّا وجزرًا، وكادت صفوف المسلمين تتصدع من هول القتال، ودارت الدائرة على المسلمين حتى وصل أتباع الدجال مسيلمة إلى خيمة خالد بن الوليد، وكادوا يأسرون زوجته لولا أن أجارها أحدهم، وكان قائد معركة اليمامة سيدنا خالد بن الوليد- رضي الله عنه-، وهو خبير عسكري لا يشق له غبار إلى الآن يُدَرِّسون خطط خالد العسكرية في الأكاديميات العسكرية في أوروبا، وللأسف عندنا هنا أناس كَذِبَة تشمئز قلوبهم من ذكر تاريخنا، فلما حدث ما حدث وقف سيدنا خالد وهو ينادي في الناس أن تمايزوا حتى نعلم من أين يؤتى المسلمون، وهنا ظهرت بطولات فارعة، نقف أقزامًا أمامها، فوقف أبو حذيفة بن عتبة ينادي في الناس- وهذا النداء لكل واحد منا الآن- يا أهل القرآن زيِّنوا القرآن بالفعال.
وكانت راية المسلمين يوم اليمامة مع زيد بن الخطاب، فلم يزل يتقدم بها في نحر العدو ويضارب بسيفه حتى قتل، ووقعت الراية، فالتقطها سيدنا سالم مولى أبي حذيفة- رضي الله عنه- وهو الشيخ العجوز الذي تجاوز الثمانين من عمره، فجاء جماعة من الشباب يقولون له: يا سالم أعطنا الراية نعطيها لشاب قوي جلد، فإنا نخشى أن نؤتى من قبلك، فقال لهم سالم: تخشون أن تأتي الهزيمة من قِبلي، بئس حامل القرآن أنا إذًا إن أُوتيتم من قبلي، فقاتل قتالاً شديدًا حتى انقطعت يده اليمنى، فأخذ الراية بيساره فقطعت فاحتضنها وهو يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (آل عمران: من الآية 144)، ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾ (آل عمران)، فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قالوا: قُتل، قال: فما فعل فلان؟ قالوا: قُتل، قال: فأضجعوني بينهما, أبو عقيل الأنيفي وهو رجل عادي اسمه غير معروف في تاريخ الأصحاب الذين رُزقوا حظوظًا من الشهرة، وقصته كما يرويها الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى: "أخبرنا جعفر بن عبد الله بن أسلم الهمداني قال: لما كان يوم اليمامة، واصطفَّ الناس للقتال كان أول الناس جرح أبو عقيل الأنيفي- رضي الله عنه-، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فشطب في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر لما كان فيه، وهذا أول النهار، وجر إلى الرحل فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم، غضب الأنصار وضاقت صدورهم أن تدور المعركة على هذا النحو، فصاحوا في الناس أخلصونا أخلصونا، أي اجعلونا في المقدمة وفي الطليعة، لا نريد أن يختلط بنا أحد، فأخلصوا رجلاً رجلاً يُميزون، وأخذوا يتجمعون حول الصيحة، ووقف معن بن عدي- رضي الله عنه- يصيح بالأنصار: الله الله.. والكرة على عدوكم، وأعنق معن- رضي الله عنه- يقدم القوم؛ وأبو عقيل- رضي الله عنه- واهن من جرحه، قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنه-: فنهض أبو عقيل- رضي الله عنه- إلى قومه فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوَّه المنادي باسمي، قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فقلت: إنما يقول يا للأنصار لا يعني الجرحى، قال أبو عقيل- رضي الله عنه-: أنا رجل من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبوًا.
قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فتحزم أبو عقيل- رضي الله عنه- وأخذ السيف بيده اليمنى مجردًا، ثم جعل ينادي: يا للأنصار كرة كيوم حنين- ويوم حنين كما نعلم هُزم المسلمون فيه في أول الأمر لما أعجبتهم كثرتهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، ووقف النبي- صلى الله عليه وسلم- يومها، ونادى نداءين اثنين لم يفصل بينهما بفاصلٍ نظر إلى يمينه وهو يقول: "يا للأنصار يا أصحاب بيعة العقبة"، ثم نظر إلى يساره وهو يقول: "يا للأنصار يا أصحاب بيعة العقبة"، فاجتمع الأنصار على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وانتصر بهم- الرجل لم ينسَ يوم حُنين فخرج زاحفًا، وهو ينادي يا للأنصار كرة كيوم حنين- فاجتمعوا رحمهم الله جميعًا يقدمون المسلمين دربةً دون عدوهم؛ حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا، واختلفت السيوف بيننا وبينهم.
قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فنظرت إلى أبي عقيل- رضي الله عنه- وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا، كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة، قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فوقعت على أبي عقيل- رضي الله عنه- وهو صريع بآخر رمق فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك، بلسان ملتاث، لمن الدبرة؟ قال: قلت أبشر، ورفعت صوتي، قد قُتل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله.
قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فأخبرت عمر- رضي الله عنه- بعد أن قدمت خبره كله فقال: رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وقديم إسلام.
من ربَّى هؤلاء؟ محمد والقرآن، هذا هو القرآن، وهؤلاء أهل القرآن، رحم الله سيدنا عثمان بن عفان وهو يقول: والله لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
4- موقف الأمة اليوم من القرآن:
وللأسف فأين القرآن اليوم في حياة أمة القرآن؟ أين القرآن اليوم في حياتنا؟ للأسف الأمة حصرت كتاب ربها في أحد رجلين، رجل يقرأ القرآن من أجل جلب الرزق على أنه بركة، وآخر جعل القرآن رمزًا لأحزانه، فأصبح من المألوف أنه بمجرد أن تسمع أحدًا من الناس قد أدار القرآن للسماع حتى يكون السؤال الذي يتبادر سريعًا إلى الأذهان من الذي مات اليوم؟ ما المصيبة التي حدثت؟ مع أن القرآن ما جاء للأموات، ما جاء لنقرأه لأمواتنا ولا لنقرأه على مقابرنا، هكذا قال الله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69)﴾، ما وظيفته يا رب؟ قال: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ (يس: من الآية 70)، القرآن جاء ليكون دستور هداية لحياتنا، هكذا قال الله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)﴾ (الإسراء)، ولذلك لما سُئلت أمنا عائشة- رضي الله عنها- عن خلق رسول الله قالت: (كان خلقه القرآن).
كان كُتَّاب السير والتاريخ عندما يتحدثون عن أصحاب رسول الله ذلك الجيل الفريد الذي ربَّاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عينه كانوا يقولون عنهم (كانوا قرآنًا يمشي على الأرض)، علينا أن نقف أمام القرآن نتدبره خاشعين، لا نمر ولا نخر عليه صمًّا وعميانًا، نتدبر قول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾ (فاطر).
وعلينا أن نتساءل أي هؤلاء نحن؟!.
إن تلاوة القرآن تعني شيئًا آخر غير المرور على كلماته بصوت أو بغير صوت، إنها تعني التدبر الذي يقودنا إلى الإدراك والتأثر إلى العمل والسلوك.
نحن نحتاج الآن أن نتزود من القرآن بزاد يرشدنا في الدنيا إلى الصلاح وندخره للآخرة للفلاح، بهذا الزاد صار أصحاب رسول الله قرآنًا حيًّا يمشي على الأرض، يستعينون على حفظه بتطبيقه والعمل به، لا العكس.
القرآن يهتف بأهله ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا(82)) (النساء)، يهتف بنا (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ (محمد).
5- الخير باقٍ إلى قيام الساعة:
وإذا كان القرآن قد ربَّى على مائدته أفضل الأجيال؛ ذلك الجيل الفريد وتلك النماذج الفريدة التي قامت على أكتافها الدولة الإسلامية من ياسر وسمية وبلال وصهيب وخباب وغيرهم من النماذج الرائعة لذلك الجيل القرآني الفريد، صاروا مضرب الأمثال، خرَّج منهم أسامة بن زيد الذي كان أهلاً لقيادة الجيوش.
فها هو كتاب ربنا بين أيدينا ماثلاً بين أعيننا؛ فهل آن لنا أن نتغير؟ الطريق واضح إن نحن أردنا ذلك، وتعاملنا مع القرآن، كما تعامل معه الصحابة الكرام؛ تعظيمًا لحقه وإجلالاً لقدره بقلوب حاضرة متدبرة، كما أمرنا الله فهم ثم تطبيق وعمل، والأمر ليس بمستحيل ولا بعيد، فالخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وما نماذج الحركة الإسلامية الرشيدة في هذا القرن عنا ببعيد، ابتداءً بالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله الذي لمس الطريق، فربَّى رجالاً أفذاذًا على ما كان عليه السلف الصالح من تعامل مع القرآن، وتأدب بآدابه وامتثال لتوجيهاته، فأخرج نماذج باهرة كالشهيد محمد فرغلي، والشهيد يوسف طلعت، والشهيد عبد القادر عودة، والشهيد عبد الفتاح إسماعيل، والشهيد يوسف هواش، والشهيد سيد قطب صاحب ظلال القرآن الذي خطه بإيمان خالط شغاف قلبه، ظهروا في مجالات مختلفة من ميادين الجهاد والفداء والاستشهاد في فلسطين والقنال؛ ثباتًا على الحق، ودفاعًا عنه ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾ (آل عمران)، هذا هو القرآن وهؤلاء هم أهله، وهذا دور القرآن المأمول من أهل القرآن؛ لنجعل من شهر القرآن وقفة صلح مع كتاب ربنا، تبدأ بترك هجر تلاوة القرآن ثم نُتبع هذه التلاوة بالتدبر، وليكن همنا الأول من القراءة الاتباع والتطبيق كما أمرنا الله.
﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الزمر: من الآية 55)، مستحضرين في قلوبنا قول الله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)﴾ (الزمر).
ولنتبع توجيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنا في قراءتنا للقرآن: "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، ولانت عليه جلودكم"؛ لنحذر أن ننشغل بمخارج الحروف وأحكام التلاوة- وهي لازمة لا بد منها- عن التدبر والفهم، فننصرف إلى الألفاظ دون المعاني؛ لنداوم على تلاوة القرآن ولا نهجره حتى لا نقع تحت طائلة شكوى رسول الله لربه من أمته: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)﴾ (الفرقان)؛ لنجدِّد الزاد من القرآن، ولتدم صلتنا بكتاب ربنا تلاوةً لكلامه وتدبرًا لمعانيه، ولنحفظ منه ما استطعنا فإنه يُعين في الصلاة وقيام الليل ونحن نستقبل شهر رمضان شهر القرآن؛ فلنجعل منه نقطة انطلاق، فمن يدري هل نعيش إلى رمضان آخر؟ فليكن شعارنا في رمضان وبعد رمضان "الزم القرآن"، لنكثر من تلاوته، ولنتعبد بقراءته، والتقرب إلى الله به آناء الليل وأطراف النهار، فلا نهمله ونضيع حقوقه.. والإخوان أولى الناس بهذا.
6- وصية قبل الوداع:
وقد حدَّد الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- ذلك في رسالته: "هل نحن قوم عمليون؟" في عنوان أفرده (حق القرآن)، فيقول رحمه الله: "ما رأيت ضائعًا أشبه بمحتفظ به ولا مهملاً أشبه بمعني بشأنه من القرآن الكريم في أمتنا هذه، أنزل الله القرآن الكريم كتابًا محكمًا ونظامًا شاملاً وقوامًا لأمر الدين والدنيا,﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت)، وأعتقد أن أهم الأغراض التي تجب على الأمة الإسلامية حيال القرآن الكريم ثلاثة مقاصد:
أولها: الإكثار من تلاوته، والتعبد بقراءته، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى به.
وثانيها: جعله مصدرًا لأحكام الدين وشرائعه، منه تؤخذ وتستنبط وتستقي وتتعلم.
وثالثها: جعله أساسًا لأحكام الدنيا منه تستمد وعلى مواده الحكيمة تطبق.
تلك أهم المقاصد والأغراض التي أنزل الله لها كتابه، وأرسل به نبيه، وتركه فينا من بعده واعظًا مذكرًا وحكمًا عدلاً وقسطاسًا مستقيمًا، ولقد فهم السلف رضوان الله عليهم هذه المقاصد فقاموا بتحقيقها خير قيام, فكان منهم من يقرأ القرآن في ثلاث، ومنهم من يقرأه في سبع، ومنهم من يقرأه في أقل من ذلك أو أكثر، ولقد كان بعضهم إذا شغل عن ورده من القرآن نظر في المصحف وقرأ بعض الآيات الكريمة، وقال: حتى لا أكون ممن اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، فكان القرآن ربيع قلوبهم وورد عباداتهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ورضي الله عن الخليفة الثالث الذي لم يسل المصحف والحصار على بابه والسيف على عنقه:
تمني كتاب الله أول ليلة وآخره لا في حمام المقادر
ويرحم الله ذلك الذي لم يجد في رثائه من أن يقول:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا
وأنت إذا رجعت إلى سيرهم لم تجد واحدًا منهم هجر كتاب الله أو ترك تلاوته أسبوعًا واحدًا، فضلاً عن شهر كامل، فضلاً عن السنين والأعوام، ولا أحب أن أطيل عليك بما أشرقت به كتب السير، واستنارت بضوء سناه صحائف كتب التاريخ.
وهم حينما أرادوا أن يستنبطوا أحكام دين الله كان القرآن أول المصادر، وما الأول إذن إن لم يكن كتاب الله؟ وها أنت ترى أن المصطفى- صلى الله عليه وسلم- قد أقر معاذًا حين سأله بمَ يحكم، فقال بكتاب الله، وبدأ به ثم ثنا بالسنة المطهرة، وقد علمت أن عمر- رضي الله عنه- حظر على كثير من الصحابة الكرام أن يحدثوا الناس- وهم حديثو عهد بالإسلام- بالأحاديث والوقائع حتى يفقهوهم في كتاب الله أولاً، ويقفوهم على حلاله وحرامه.
وقد علمت كذلك أن الأئمة من صدور التابعين وتابعيهم بإحسان أمثال سعيد بن المسيب ما كانوا يسمحون للناس بتدوين فتاويهم حذر الانصراف بأقوالهم عن كتاب الله، ولقد مزَّق سعيد الصحيفة من يد من دوّن إفتاءه وقال: تأخذ كلامي وتدع كتاب الله، ثم تذهب تقول قال سعيد قال سعيد! عليك بكتاب الله وسنة رسوله.
أفلست ترى من هذا وغيره أن السلف الصالحين رضوان الله عليهم قد جعلوا كتاب الله تعالى أصل الأصول التي يستنبطون منها دين الله وأحكامه.
وما كانت أحكام الدنيا عندهم إلا وفق ما يأمر به ونزولاً على حكمه، حقوق تؤدَّى، وحدود تُقام، وأحكام تُنفذ، وأوامر تسري، لا إلغاء ولا تعطيل ولا تعليل ولا تأويل، كذلك كان يوم كان الإسلام غضًا طريًّا، وثمر الدين بالغًا جنيًّا، ويوم فهم المسلمون حكمة وجود القرآن بينهم كما علمهم رب القرآن ونبي القرآن, ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾ (ص)، ثم دالت تلك الدولة، وذهب ما كان للقرآن على عقول الناس وألبابهم من صولة، وسرت في ألسنتهم وعقولهم لوثة العجمة، فإذا هم في ناحية والقرآن في ناحية أخرى وبين الناحيتين بعد المشرقين.
سارت مشرقة وسرت مغربًا شتان بين مشرق ومغرب
فأما التعبد بتلاوة القرآن وقرائته آناء الليل وأطراف النهار، فالنذر اليسير منا من عني بذلك وعمل عليه.. وأما بقية المتعبدين فلهم فيما وضعوا لأنفسهم، ووضع لهم شيوخهم من أوراد وأحزاب ووظائف وصلوات، ما تركوا به كتاب الله وأحلوه محله حفظًا واهتمامًا وتعبدًا وتلاوةً وترديدًا وتكرارًا، وما نحرم تلاوة الأوراد الصحيحة، ولا نحول بين الناس والأدعية والأحزاب التي لا تخالف ظاهر الشريعة؛ ولكن نقول لهم: كتاب الله أولى أولاً، رتبوا على أنفسكم منه أحزابًا تصل قلوبكم به وتربط أرواحكم بفيضه وإشراقه، ثم اذكروا الله بعد ذلك بما شئتم من الصيغ التي تنطبق على أحكام الدين، أما أن تهملوا القرآن جملة وتجعلوا عبادتكم كلها مما وضعتم لأنفسكم أو وضع غيركم لكم؛ فترك لكتاب الله، وإهمال لحقوقه.
أما استنباط الأحكام منه فقد وقع الناس في جهالة بكتاب الله تجعل بينهم وبين ذلك حجابًا كثيفًا وسدًّا منيعًا، مما اضطرهم إلى القناعة بالملخصات والرضا بالتعليقات وقصر هممهم عن السمو إلى ما هو أرقى من ذلك من الغايات.
وأما تطبيق أحكامه الدنيوية فقد استبدلها القوم بغيرها وأحلوا سواها محلها، وجعلوا تشريع الأجانب وما وضع الفرنسيون والرومان أساسًا لتشريعهم ومصدرًا لأحكامهم، وبذلك تعطلت أحكام كتاب الله، وأصبحت بين المسلمين نسيًا منسيًّا وفيها- علم الله- لهم كل خير لو كانوا يسمعون.. واكتفى المسلمون بعد هذا كله من القرآن الكريم بأن جعلوه تمائم لأمراضهم وزينة لمجتمعاتهم وسلوة في حفلهم وأفراحهم وأحزانهم، وليتهم إذ جعلوه كذلك أعطوه حقه، بل تراهم في محله لاهين غافلين لاعبين منصرفين إلى اللغو والحديث واللهو العبث، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)﴾ (الأعراف).
كان القرآن فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم، وكان واسطة العقد في الخطب والعظات فسار بواسطة العقد في الحلي والتميمات, أفلست محقًّا حين قلت: ما رأيت ضائعًا أشبه لمحتفظٍ به من كتاب الله! تناقض عجيب في هذا الموقف منا أمام القرآن: أننا نعظمه، ما في ذلك شك.. ونذود عنه، ما في ذلك شك.. ونقترب إلى الله به ما في ذلك شك، ولكن يا قوم: أخطأتم طريق التعظيم، وتنكبتم سبيل الذود عنه، وضللتم عن جادة التقرب إلى الله به، أليس من الإضاعة لكتاب الله أن ترى المراكز التي كان القرآن يعفي منها عددًا عظيمًا من القرعة العسكرية، صارت اليوم خلوًا ممن يحفظه ويتقدم للمعافاة به؟
أو ليس من الإضاعة لكتاب الله أن ترى الطالب يدخل الأزهر الشريف وهو يحفظه؛ لأن ذلك شرط دخوله، ثم يخرج منه وقد نسيه لأن القرآن لم يشترط في إجازته بنهاية مدة تعليمه.. فتراه إن خرج ليكون إمامًا يصلي بالناس قصر بهم، وإن كان واعظًا استند إلى فقهاء الريف الحافظين في عظاته ودروسه، وإن كان محاميًا أو قاضيًا لجأ إلى المصحف في تصحيح الآيات التي يستشهد بها من كتاب الله.
إننا حقيقةً أضعنا كتاب الله وكأنه بيننا كتاب أثري لا يسري مفعوله ولا ينفذ حكمه، وهذا في الحقيقة أصل ما أصابنا من بلاء وشر.
وإذا علمت هذا أيها القارئ الكريم.. فاعلم أن الإخوان المسلمين يحاولون في جد أن يعودوا هم أولاً إلى كتاب الله، يتعبدون بتلاوته، ويستنيرون في تفهم أقوال الأئمة الأعلام بآياته، ويطالبون الناس بإنفاذ أحكامه، ويدعون الناس معهم إلى تحقيق هذا الغاية التي هي أنبل غايات المسلم في الحياة, ولله الأمر من قبل ومن بعد"، أسأل الله أن يجعلنا من ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾ (الزمر).