بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم ثريا
قال الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) ﴾ (البقرة).
يقول تعالى: كيف يليق بكم- يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصَّر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله، عز وجل.
وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود: من الآية 88).
فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفِعْلِه واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجةَ لهم فيها، والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر، وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة: سمعتُ سعيد بن جبير يقول له: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر. وقال مالك: وصدق مَن ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت ولكنه- والحالة هذه - مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، فعن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ويَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويُحْرِقُ نَفْسَهُ" (أخرجه الطبراني في الكبير 2/165 (1681)، وقال الهيثمي في المجمع 1/185: "رجاله موثقون").
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ" (أخرجه أحمد في 3/120 (12232)، وابن حبان 1/249 (53)، وأبو يعلى 7/72 (3996)، قال الهيثمى 7/276: أحد أسانيد أبى يعلى رجاله رجال الصحيح، والضياء (7/207، رقم 2646) وقال: إسناده صحيح).
وعن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ- والأقتاب: الأمعاء واحدها قتب- فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ، مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ" (أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب: صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ 6/481 (3267)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب: عُقُوبَةِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يَفْعَلُهُ 4/2290 (2989/51).
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظٍ يُزهِّد الناسَ ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقًا أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الناس فما باله يستفتح الناس ويسترقد
الرزق مقسوم على من ترى يسقى له الأبيض والأسود
وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري لزاهد يومًا على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض
قال: فضج الناس بالبكاء.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي بالقول منك وينفع التعليم
قصة طريفة حول الآية:
وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال: دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي في المنام: هي امرأة في الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها، فقيل لي: هي ترعى غنمًا بوادٍ هناك، فجئت إليها، فإذا هي قائمة تصلي، والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذئاب عليهن، فلما سلمت، قالت: يا ابن زيد، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم.
فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي، فأصلح ما بين الذئاب والغنم. فقلت لها: عظيني.
فقالت: يا عجبًا من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئًا، فابتغى إليه تائبًا إلا سلبه الله حب الخلوة، وبدَّله بَعْدَ القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة.