المغني ..
وقفت على النافذة تراقبني بعينين دامعتين .. تلوح بيديها اللتين أهزلهما مر السنين ..
كانت تدافع عبراتها .. حتى غلبها البكاء .. فبكت ..
وقفت أنظر إليها .. نشيجها يصل إلى مسمعي .. لكن المعاصي الجاثمة على صدري حالت بينه وبين الوصول إلى قلبي القاسي ..
لم أرحم توسلاتها بالبقاء معها .. والالتحاق بجامعة في نفس المدينة ..
أنانية .. حب للذات .. بحث عن حرية مزعومة .. و شخصية مستقلة بذاتها ..
بل شهوات وملذات .. وشياطين من الإنس والجن يؤازر بعضهم بعضا ..
هروب من نصائحها ومواعظها .. من عطفها وشفقتها .. وخوفها أن أنحرف ..
تركتها وهي واقفة تودعني .. غبت عنها وهي لم تفارق مكانها .. وداعاً أمي ..
وهناك .. لم أعد أسمع عند خروجي : في حفظ الله يا ولدي .. إلى أين تذهب يا ولدي ؟
وهناك : لم أعد أسمع : لماذا تأخرت يا ولدي ؟..
انطلقت في حياة اللهو والترف .. حياة الغفلة والخوض في المعاصي والآثام ..
صوتي الجميل أغرى رفقاء السوء الذين زينوا ليّ الغناء ..
بدأت أغني وشياطين الأنس يغدقون عبارات الثناء التي لامست قلبي ..
إلى أن جاء ذلك اليوم الذي دعوت فيه لكي أغني على المسرح .. عشت صراعاً رهيباً فلا زال الحياء يحتل من قلبي مساحة صغيرة .. فعشت بين الرفض والموافقة لحظات .. فقلبي يعاتبني : لا لست من يقف ليغني كما يفعل الفسقة .. لكن نفسي توبخني وتلومني : هذه فرصتك لا تضيعها سوف تصبح مشهوراً .. وبعد عناء وتردد وافقت ..
صعدت على المسرح ولازال للحياء بقية .. لكنه رحل مع أول كلمة تغنيت بها ..
اهتزت القاعة طرباً .. وتمايلت الأجساد نشوة .. عبارات الثناء والمديح تستحثني على المواصلة كلما سكت ..
لتمضي تلك الليلة ولتقضي على ماتبقى من إيمان ..
رفقاء السوء من حولي قد أزدادوا .. الدعوات كثرت .. تنقلت من قاعة إلى قاعة .. تنقلت بين أصناف المعاصي والآثام .. سهرات خاصة وعامة ..
قدمت ليّ دعوة للمشاركة في حفل غنائي في أحد القصور ..قدمت بعض الأغاني والتي تفاعل معها الجمهور وكنت بحق النجم القادم إلى الساحة الفنية ..
تلقيت بعد هذه الحفلة دعوة من أحد أهل الفن يعرض عليّ رغبته في أن يتبناني فنياً ويهتم بي ..
أخذت موعداً مع فنان مشهور عن طريق وكيل أعماله .. ليتم التنسيق بهذا الشأن .. وكان الموعد يوم الخميس ..
الأيام تمضي سريعة ..
قبل الموعد بيومين رجعت إلى أهلي .. لمشاركتهم في بعض المناسبات ..
حركة دائبة في المنزل فزواج أخي يوم الخميس .. ويوم الأربعاء سيتم عقد قران اثنتين من أخواتي ..
كانت أمي كالنحلة .. تنتقل من مكان إلى مكان .. لا تكاد الدنيا تسعها من الفرح .. تردد الدعوات والتبريكات ..
على شفتيها فرح لو قسم على العالم لابتسم .. تواصل الليل بالنهار ..
تعد العدة للفرح الكبير .. تطمئن على كل شيء .. لا تدع صغيرة ولا كبيرة إلا وتسأل عنها ..
وجاء يوم الأربعاء سريعاً ..
فإذا به يحمل الفاجعة التي غيرت مجرى حياتي .. الفاجعة التي أيقظتني من الغفلة ..
أحيت قلبي الذي قد مات ..
جاءت الفاجعة لتنتشلني من المستنقع القذر .. مستنقع الرذيلة .. مستنقع الغناء والطرب ..
ماتت أمي .. كيف !! لا أدري .. المهم أنها ماتت ..
بعد أن شاركتنا لحظات بسيطة من الفرح .. تنحت قليلاً ..
وألقت بجسدها المنهك على سريرها .. وكأنها تقول : وداعاً صغاري .. لقد كبرتم ..
تحول الفرح إلى حزن .. وجوه صامتة قد تملكتها الدهشة وألجمتها الفاجعة ..
لا ترى إلا دموعاً تنهمر .. وقلوباً ترتجف ..
ولا تسمع إلا نشيجاً ينطلق من كل زاوية في المنزل .. كل شيء كان يبكي وينوح .. إلا أمي فقد كانت على فراشها ساكنة .. لا تدري عما حولها ..
جهزوا جنازتها .. بدؤوا يغسلونها ..
دخلت عليها بعدما غسلت .. ألقيت عليها النظرة الأخيرة .. كان وجهها هادئاً .. كما كان في الحياة ..
نظرت إلى فمها .. عينيها .. يديها .. كانت بالأمس تنهاني عن مفارقتها خوفاً عليَّ من الفساد ..
قبلتها .. بكيت .. بكت أخواتي حولي .. أخرجوني من غرفة التغسيل ..
مضت الساعات سريعة .. لم أشعر إلا وأنا أقف في الصف أصلي عليها .. جثتها هامدة .. والإمام يردد الله : أكبر .. الله أكبر ..
دعوت لها بكل جوارحي .. دعوت الله أن يغفر لي تقصيري في حقها ..
حملت جنازتها مع من حملوا .. سرنا بها إلى القبر ..
جعلت أهيل عليها التراب .. اللهم ثبتها .. اللهم ثبتها ..
مضى النهار مع المعزين .. لكن كان لليل قول آخر ..
أويت إلى غرفتي مبكراً ..أطفأت الأنوار ..
ألقيت بجسدي على الفراش ..
صورٌ من الماضي بدأت تظهر لي .. صوتها يملأ المكان .. يا ولدي قم .. لا تفتك الصلاة .. زملائك في المسجد ينتظرونك ..
يا ولدي أبق معي .. واصل دراستك هنا .. لا تسافر .. يا ولدي أنتبه لنفسك ..
حسرات وندم .. هموم وغموم أطبقت على صدري .. لم استطع أن أتنفس ..
صور من العقوق .. شريط الذكريات يمر أمامي ..
كانت تسعدني وأشقيها.. تفرحني وأبكيها ..
تذكرت .. توسلاتها .. رجاءها .. لا تذهب .. لا تفعل .. زفرات وحسرات ..
آآآآآه كم كنت عاقاً ..
بكيت بكاءً مراً .. قمت أصلي لكنني لم استطع أن أصلي فقد استعجم لساني ..
كانت دموعي ساخنة فأذابت قسوة قلبي ..
سجدت لله بللت موضع سجودي بالدموع ..
النحيب مشفوع بدعوات صادقة تنطلق من الأعماق .. تؤمن عليها كل ذرة من ذرات جسدي ..
عاهدت ربي على البر بها بعد موتها ..
سألته أن يثبتني على ذلك .. رددت الدعاء : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
انتهيت من الصلاة ..
توجهت نحو الماضي الكئيب .. أقلب بين الدفاتر والأوراق ..
فهنا دفتر يحمل بعض الأغاني .. وهنا رسائل .. وهناك صور .. هذا شريط أغانٍ خاصة ..
وهذه أشرطة لبعض الفساق ..
عمدت إلى جيبي أخرجت ما فيه من بطاقات .. وجدت بطاقة الفنان الكبير .. تذكرت موعده .. يوم الخميس عصراً ..
صرخت : أعوذ بالله .. مزقته بيدي ..
جمعت كل شيء يذكرني بالمعاصي والآثام .. وضعتها في كيس وفي اليوم الثاني كان الفراق بيني وبينها ..