بقلم: الشيخ/ السيد عبد الله
حديثنا عن نموذج فريد في الإصلاح والتغيير، فقد كان ريحانة مكة، وأعطر أهل مكة، وأنعم شباب مكة، نشأ في النعمة، وغذي بها، عاش من حياة الثراء والترف ما لم يحظ به غيره من شباب مكة، وعندما سمع عن الإسلام، وعظمة الإسلام، ورقي تعاليمه، وسمو أخلاقه، تغير!
فقد اختار الإيمان بالله واتباع رسوله، وتنازل عن كل ما كان يعيشه من الرغد والزينة، نعم إنه نموذج عظيم للتغيير، لشاب قبل أن يغير حياته من الضد إلى الضد، ونفسه بذلك راضية، إنه مصعب بن عمير- رضي الله عنه وأرضاه- نموذج الشاب الذي حطم قيود الجاهلية مع أنها كانت من ذهب، وتعاظم على عيش الجاهلية، وكان له رغد، وتعالى على رغبات نفسه ونزواتها، وإن كان سيكون فيه تعب ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ (النازعات).
نشأ رضي الله عنه وأرضاه، في أسرة هي أنعم أهل مكة، وأكثرهم مالاً وثراءً ومتعةً، أمه هي خناس بنت مالك، امرأة تتمتع بقوة في الشخصية، ومال كثير وفير، يهابها أبناؤها ويعملون لها ألف حساب، ابنها مصعب كان مدللاً مترفًا، كان أشهر شباب مكة في الأناقة واللياقة، في تميزه في لباسه وعطره وحديثه، أوامره عند أمه مجابة، وطلباته ملباة.
سمع مصعب بدعوة الإسلام، ولعله لفت نظره التغير في سلوك بعض من آمنوا، ممكن كان يعرفهم، فرأى التغير الذي أحدثه الإسلام فيهم، فأراد أن يتعرف على الإسلام، وبدأ يبحث كيف يستطيع أن يلتقي بصاحب الرسالة، محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى أن وجد من يدله، فذهب لدار الأرقم بن أبي الأرقم، وهناك استمع للنبي- صلى الله عليه وسلم- فعلم رقي الإسلام وعظمته، ووجد أن تمام الأناقة التي عاش فيها طوال عمره أن يكون من أتباع هذا الدين، فشرح الله صدره للإسلام، فأسلم، وحسن إسلامه ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)﴾ (محمد)، ظل- رضي الله عنه- يكتم إيمانه، كي لا تعلم أمه بذلك- يتفادى بذلك غضبها- وظلت الأيام على ذلك حينًا، حتى أبصره من أخبر أمه، وهو يدخل دار الأرقم بن أبي الأرقم، فغضبت عليه غضبًا شديدًا، وصبت عليه جام غضبها، فحرمته من كثير مما كان يمتاز به، بل وصل بها الأمر أن حبسته، وظل هكذا حتى كانت الهجرة للحبشة، فاستطاع أن يتحرر من قيوده، وهاجر للحبشة، وهو في ضيق من العيش، ليس يملك من الدنيا دينارًا ولا درهمًا.
ودارت به الأيام، وعاد من الحبشة، ليختاره النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد بيعة العقبة الأولى، لمهمة هو بها جدير، وبمقوماتها خبير، كيف لا؟ وهو رائد من روادها، إنا مهمة تغيير واقع مجتمع المدينة، ليتأهل لاستقبال دولة الإسلام الوليدة، كان لهذا الاختيار دلالة، فمصعب صاحب تجربة شخصية في التغيير، فهو مضرب للمثل لشباب الأمة، الذين يعجزون عن تغيير نفوسهم وإصلاحها، بدعوى عدم القدرة، كما أنه حلو الحديث، عذب الكلام، فقد كان لؤلؤة مجالس أهل مكة.
استعد مصعب للسفر للمدينة، لتكون أول سفارة، وأول سفير في الإسلام، فنزل بالمدينة، مع بعض ممن بايعوا بيعة العقبة الأولى، ليشكلوا فريق عمل دعوي داخل المدينة، تحت إشراف مصعب- رضي الله عنه- واستطاع مصعب مع فريقه أن ينشروا الإسلام في أرجاء المدينة كلها حتى أنه لم يبق بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام.
وهذا موقف من مواقفه الدعوية، تحفظه لنا كتب التاريخ والسيرة، فقد أقام مصعب بن عمير في المدينة، في منزل أسعد بن زرارة، ونهضا معًا يغشيان القبائل والمجالس، تاليًا على الناس ما معه من كتاب الله، وتعرض لبعض المواقف التي كان من الممكن أن تودي به، لولا فطنة عقله وعظمة روحه، فقد فاجأه يوما أُسَيْد بن حضير، سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، شاهِرًا حربته، يتوهج غضبًا على الذي جاء يفتن قومه عن دينهم، وقال أُسَيْد لمصعب وأسعد بن زرارة: ما جاء بكما إلى حَيِّنَا تُسَفِّهان ضعفائنا؟ اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة.
وبمنتهى الهـدوء تحرك لسان مصعب الخيـر بالحديث الطيب، فقال: أولاً تجلس فتستمـع؟ فإن رضيت أمْرنا قَبِلته، وإن كرهته كَفَفْنا عنك ما تكره، وكان أُسَيْد رجلاً أريبًا عاقلاً، هنالك أجاب أسَيْد أنصَفْت، وألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي، ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة حتى أخذت أسارير أُسَيْـد تشرق، ولم يكد ينتهي مصعـب حتى هتف أسَيْـد: ما أحسن هذا القول وأصدقـه، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ وأجابوه بتهليلـة رجت الأرض رجًّا، ثم قال له مصعب، يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا إله إلا الله، فأسلم أُسَيْد وسرى الخبر كالضوء، وجاء سعد بن معاذ، ليصغى لمصعب واقتنع وأسلم، ثم تلاه سعد بن عبادة وأسلم، وأقبل أهل المدينة يتساءلون: إذ أسلم ساداتهم جميعًا ففيم التخلَّف؟ هيا إلى مصعب فلنؤمن معه، فإن الحق يخرج من بين ثناياه.
ولنقف وقفة مع واقع أهل المدينة من الأوس والخزرج، فقد ساعد هذا الواقع سيدنا مصعب في مهمته من ناحية، كما جعلهم يقبلون الإسلام بأريحية واطمئنان من ناحية أخرى.
إن مجتمع المدينة قبل الإسلام، كان مجتمعًا جاهليًّا تسوده نظم الجاهلية السيئة، في كل مناحي الحياة، حتى أوصلتهم الضغائن والأحقاد، وسوء الأخلاق، إلى أن نشبت بينهم حرب أتت على الأخضر واليابس، ومزقتهم كل ممزق، وهم الذين كانوا أبناء قبيلة واحدة، أصلها اليمن، واستوطنوا المدينة (يثرب) وعاشوا بها، حتى طغت عليهم الجاهلية التي انتهت بهم لتلك الحرب، التي عرفت بيوم بعاث.
هذا الواقع الهش والمتوتر، والذي ساده الفساد في كل مناحيه، كان عاملاً مساعدًا للأنصار على الدخول في الإسلام، الذي وجدوا فيه كل معاني الإنسانية، والألفة التي فقدوها، ودفعوا لفقدها أثمانًا باهظةً- من دمائهم، وأرواحهم، وأموالهم-، فسارعوا للدخول في الإسلام، الذي لم شملهم، وأوجد الحب والألفة بينهم، وأطفئ نار الحقد والغل الذي كاد أن يعصف بهم.
وبهذا دخل أهل المدينة في دين الله أفواجًا، بعد أن وجدوا في الإسلام منقذًا لهم من الهلاك والدمار، الذي كان نتيجة سوء الأحوال التي عاشوها في ظل النظم الجاهلية، التي صنعتها أهواء البشر، فأفسدت حياة الناس، وجلبت عليهم الخوف، وعدم الأمن، وصدق الله تعالى إذ يقول ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: من الآية 41)، ونجح مصعب بن عمير في مهمته بفضل صدقه وإخلاصه ومؤهلاته وخبرته، وبإيمانه بحاجة الناس الملحة للتغيير والإصلاح، فوفى بعهده مع ربه، وصدق الله القائل ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
فالتغيير يستدعي وجود مصلحين مخلصين للقيام به، والدعوة إليه، كما يستدعي الشعور العام بالحاجة للتغيير، وضرورته، وأن البديل هو الهلاك والدمار، ولنتخيل لو لم يدخل الإسلام للمدينة، كيف كانت الصورة؟ ولنتصور كيف لو لم نعمل على إصلاح مجتمعنا، وتقويم أحوالنا، أي مصير ينتظرنا؟ وينتظر الأجيال من بعدنا؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
وواقعنا لا يختلف كثيرًا عن واقع المدينة قبل مجيء الإسلام، فقد شنت الحرب علينا، على يد الكثيرين من الأغنياء ورجال الأعمال، الذين تزوجوا السلطة، وكانت نتيجتها أن مزقوا قطاعًا عريضًا من المجتمع إربًا إربًا، ما بين الأعداد الهائلة- ممن ماتوا ومن ينتظرون- من مرضى السرطان، والفشل الكلوي، والوباء الكبدي، نتيجة الأغذية، والأدوية المسرطنة، التي انتفع من وراء ها أولئك بالملايين والمليارات، وطوابير من البطالة، والأمية، والفقراء، والعوانس، والمنتحرين... إلخ، والتي جاءت نتيجة الفساد والسرقة والنهب لثروات الوطن، أليست هذه حرب إبادة لكنها بدون سيف أو مدفع؟
ومن هنا كانت الحاجة لمصعب الخير أن يتحرك، ليأتي الخير، وللمجتمع أن يتجاوب معه ويتعاون، ليحافظ على ما بقي له من مقدرات، لينعم بها، ويؤسس لمستقبل أفضل للأجيال القادمة ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود).