علو الهمة.. رفعة للنفس (1 -2)
23/10/2010
هيفاء علوان
أصحاب الهمم العالية قصدوا سبيل الله ففرّغوا القلب لمحبته والإنابة إليه والاشتغال بمرضاته العلو مطلبٌ سامٍ تعشقه النفوس السامية، فكفى بعالي الهمة عشقه للمراتب العليا في الجنة، وإن الهمة في مدلولها تعني توجه القلب وقصده، وأصحاب الهمم العالية من قصدوا بكليتهم سبيل الحق فهاموا بالله وعكفت قلوبهم عليه، وفرّغوا القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والاشتغال بمرضاته.
تعريف الهمة: عمل قلبي لا سلطان عليه لغير صاحبه، وهي الباعث على الفعل، فالمرء يطير بهمته فتحلق به إلى الأعالي طليقة بعيداً عما يقيده من قيود تحد من نشاطه.
أما علو الهمة: فهو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وأن يطلب من كل أمر أعلاه وأقصاه، وهو الباعث على العلو ومقدمة الفضائل وهو أساس الأمور كلها، وهو أيضاً يسرّع في اجتياز المراحل. وعلو الهمة مع العلم حياة للقلب، وكلما كان القلبُ أتمَّ حياة كانت همته أعلى، وإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة. وعلو الهمة ليس ضرباً من الخيال بل هو اكتناز في قلوب من أحب الله وبذل الرغبة في الصعود والرقي.
ومفهوم علو الهمة هو أن يكون لدى المسلم أهدافٌ عليا وبرامجُ عملية طموحة وجريئة يسعى إلى تحقيقها بعزيمة قوية وإرادة جبارة، كأن يضع المسلم في باله وضمن أهدافه إحياء الثلث الأخير من الليل لما ثبت في فضله، أو يواظب على صيام النوافل كثلاثة أيام البيض وغيرها كالإثنين والخميس، أو ختم المصحف كل ثلاثة أيام.
الهمة والعقل وعلو الهمة علامة علو العقل، وإن أصدق اسم يوصف به العبد هو اسم «همّام»، وفي هذا قال المصطفى : «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمّام»، وعالي الهمة لا يرضى بالدون ولا يسعد إلا إذا وصل إلى الذرا، وقد وضع نصب عينيه هذه المقولة: «من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن يكن في نقصان فالموت خير له»، وهو أيضاً لا يريد أن يعيش في الدنيا لا أثر له، بل يحرص على أن يكون عضواً مؤثراً فيها.
وحكمته في هذه الدنيا: إذا مضى يوم ولم أصطنع يداً، ولم أقتبس علماً فما يعد من عمري، فهو في تحدٍّ دائم لكل من يحط من قدره ويقلل من قدر أعماله، يتحدى المستحيل، وينجز ما يصعب على كثير من الناس ممن يبرعون بالحكمة وطيب الكلام، ولله در من قال:
لــه همم لا منتهى لكبــارها وهمتـه الصغرى أجلّ من الدهـر
وعالي الهمة كثير الإنجاز.. يعرف قدر نفسه وما عاناه ويعانيه، ولكن يبقى دائماً بعيداً عن العُجب والغرور، وينأى عن سفاسف الأمور فلا يفعل ما يؤدي إلى هوانه، فهو ينزه نفسه عن دنايا الأمور، وبهذا يتحصن من الرذائل، وبذلك يُحترم ويُحترم رأيه. وهو كذلك لا يُرى واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديه إلا لعظائم الأمور، ومن صفاته أنه ينأى عن الهوان والتملق والمداهنة. وهو دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له،
ولله در القائل:
إذا لم أجد في بلدة ما أريده فعندي لأخرى عزمة وركاب
وقد لا ينال من يجتهد في عمله ما يتمناه لأمور خارجة عن إرادته فلا يفل ذلك من عزيمته، بل يرضى بحكم الله ويعزي نفسه أنه أدى ما عليه،
وفي هذا قال الشاعر:
سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا
الهمة ونقض العهد وصاحب الهمة العالية لا ينقض عهده {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}(الأحزاب)، فالنبي [ رفض نقض ما عزم عليه يوم أحد، وإن مبدأ عدم نقض العهد هو ما اعتمده الصحابة ومن جاء بعدهم. وصاحب الهمة العالية لا يهمه التفرد في الطريق، ولا يكترث بمخالفة الآخرين الناكبين عن طريق الحق، وهو لا يعرف الكلل ولا الملل، ويؤكد أنه إذا لم يزد شيئاً على الدنيا فهو زائد عليها، فهو لا يرضى أن يكون على هامش الحياة، وهو نوع من البشر تتحدى همته بحول الله ما يراه غيره مستحيلاً.
ولقد أثنى الله عز وجل على أصحاب الهمم وفي مقدمتهم الأنبياء: قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف: 35). وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط ما في الجنة وأعلى ما في الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجر أنهار الجنة».
أهمية الهمة يقول ابن القيم يرحمه الله: «لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه، وعلمٍ يبصره ويهديه»، وقد قيل: «كن رجلاً رجله في الثرى وهمته في الثريا»، وقيل: «ما افترقتِ الناس إلا في الهمم من علت همته علت رتبته، ولا يكون أحد إلا فيما رضيت له همته». وقال آخر: «همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال».
قال الحسن : «رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر». وما أروع ما ذكره المنفلوطي في «النبوغ» بقوله: «أنت لا تحتاج في بلوغك الغاية التي بلغها النابغون من قبلك إلى خلق غيرِ خلقك، وجو غيرِ جوك، وسماء وأرض غير سمائك وأرضك، وعقل وأداة غير عقلك وأداتك، ولكنك في حاجة إلى نفس عالية كنفوسهم، وهمم عالية كهممهم، وأمل أوسع من رقعة الأرض وأرحب من صدر الحليم، ولا يقعدن بك عن ذلك ما يهمس به حاسدوك في خلواتهم، في وصفك بالوقاحة أو السماجة، فنعم الخُلُق هي إن كانت السبيل إلى بلوغ الأماني، فامض على وجهك ودعهم في غيهم يعمهون».
ميادين علو الهمة ومن ميادين علو الهمة:
1- طلب العلم فهو أشرف ما رغب به الراغب.
2- العبادة والاستقامة قال الحسن: «من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره».
3- البحث عن الحق وخير مثال على هذا قصة إيمان سلمان الفارسي.
4- الدعوة إلى الله.
5- الإنفاق في سبيل الله.
الجمع بين الاحتساب وعلو الهمة وقد ذكر د. رياض المسيميري عن مفهوم الاحتساب: وأما الاحتساب فمفهومه أن يعمل المسلم العمل الصالح محتسباً في عمله ثواب الله، وطامعاً بأجره وعظيم فضله، ويمكن الجمع بين علو الهمة والاحتساب بأن يقوم صاحب الهمة العالية برسم أهدافه وطموحاته، ثم يسعى جاهداً لتحقيقها محتسباً الأجر فيها، وهو في ذلك مقتنع غاية القناعة بنبل أهدافه وأعماله، وأنها تقع عند الله بمكان وأنه - سبحانه - سيجازيه الجزاء الأوفى وأكمله وأتمه. من أروع ما قيل في علو الهمة في القرآن: حضنا الله سبحانه على التنافس والمسارعة إلى الخير، فإن من طلب المعالي تذللت أمامه كل العقبات التي بينه وبين خالقه، وقال تعالى { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}(آل عمران)، وقوله سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}(الحديد)، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}(المطففين)، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}(البقرة: 148)، {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}(البقرة:61).
وقال ابن قتيبة في حِكَمه: «ذو الهمة إن حطّ فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً»، وقد قيل: «همة المؤمن أبلغ من عمله».
وورد في الحديث الشريف: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه»(رواه مسلم وغيره). وقد يتفوق المؤمن على غيره بهمته العالية، كما بين ذلك الحبيب المصطفى [: «سبق درهم مائة ألف»، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: «رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضها مائة ألف»(رواه أحمد وغيره).
إن من وُهب همة عالية فإنه يقدم الغالي والنفيس، ويرخص عنده كل غال من أجل أن يصل إلى مبتغاه؛ لأنه ما من إنسان يحصل على ما يريد إلا بالمثابرة والمجاهدة والزهد في توافه الأمور، فالكمالات لا تنال إلا بالمشقة. وصدق من قال: بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها تُنال إلا على جسر من التعب فصاحب الهمة العاليــة يندفع بسرعة وبثقة وقوة نحو غايته التي خطط الوصول إليها، فيقتحم الأهوال ويستسهل الصعاب. فكم عانى الصحابة والتابعون من أجل هذه العقيدة، وكم ضحوا من أجل إعلاء كلمة الله، وكانوا يفتدون رسول الله [ وهذا الدين بأرواحهم ودمائهم. وكم يعاني مسلمو الغرب في هذه الأيام وهم يؤذَون ويفتنون في دينهم، ولكن هذه الإهانات لم ولن تزيدهم إلا إيماناً وتمسكاً بهذا الدين العظيم