بقلم:- أم حبيبة * - الأردن.
حين نطالع السيرة النبوية الشريفة ونقرأ فيها تلك الفترة التي كانت فيها السيدة خديجة- رضي الله عنها- حاضرة نحتار في وصف هذه السيدة؛ ولعل أبسط ما يمكن وصفها به هو أنها امرأة أسطورة
لكن المتبصِر بصفاتها ومواقفها مع الرسول صلى الله عليه وسلم منذ عَرضت عليه أن يخطبها إلى أن توفاها الله عز وجل مروراً بملازمتها له, ودعمها له في بدايات النبوة والدعوة لا يرى فيها إلا نموذج المرأة الطبيعي الممكن الذي تستطيع أن تكونه كل النساء, وهو نموذج المرأة التي تتصف بالصفات التي ترضي الزوج فيبحران سوياً في مركب آمن يحققان أهدافهما وما تصبو إليه نفساهما من الخير والأمن والصلاح العام والخاص.
بدأت قصتها معه صلى الله عليه وسلم حين ترامى إلى مسمعها ما شاع من أخبار صدقه وأمانته, وحسن صفاته. فبادرت إلى ائتمانه على مالها وتجارتها, وهي الغنية الشريفة التي كانت من أشرف قومها نسباً وأوسطهم مكانة, ومن أ فضل النساء طهراً, وأوفرهن جمالاً.حتى كان أشرف الرجال يتمنى قربها وإدارة أعمالها, وخطبتها لو تسنى له ذلك. فقد كانت- رضي الله عنها- سيدة أعمال بارزة تدير أموالها الكثيرة في التجارة ما بين الشام واليمن في ذلك الوقت توكِّل رجالاً أمناء أقوياء لتولي أمر تجارتها. ذلك العام لم تجد أنسب من الصادق الأمين ذي الخمسة والعشرين ربيعاً الفقير اليتيم ليقوم بتولي تجارتها وإدارة أموالها.ففعل صلى الله عليه وسلم وعاد لها بالمال الوفير المحلى ببركة يديه الكريمتين.ولما علمتْ بما كان من أخباره في تلك الرحلة من ميسرة الذي رافقه تاقت نفسها إلى الارتباط به وخفق حبه في قلبها فما كان منها إلا أن سلكت الطريق الذي تسلكه الشريفات العفيفات فبعثت إلى نفيسة بنت منية وأخبرتها بأمرها وطلبت إليها أن تذهب خِفية إلى محمد صلى الله عليه وسلم تعرض عليه أن يتزوجها فكانت بهذا الأمر حريصة على أن لا يشيع الخبر في مكة تحسباً من عدم موافقته على الأمر ورفض عرضها. لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف مقدار ما هي عليه من الشرف والطهر والمكانة العالية فوافق صلى الله عليه وسلم على الزواج بها والاقتران بتلك النجمة العالية المتلألئة طهراً البعيدة المنال مهوى نفوس الرجال. لم يثنه عن هذا فارق العمر بينهما حيث لم يثنها هي أيضاً؛ فقد كانت رضي الله عنها تكبره بخمسة عشر عاماً حيث كانت في الأربعين من العمر السن الذي تقف فيه النساء مكتوفات الأيدي يودعن الصبا والشباب لكنها- رضي الله عنها- وقفتْ بباب هذا العمر تستقبل عمراً جديداً بزواجها من شاب تتدفق فيه الحياة ويزهو بالقوة جميل السمعة رائع الصفات.
قضى صلى الله عليه وسلم قبل بعثته خمسة عشر عاماً مع زوجته التي قدَّمت له كل الدعم وساندته وفضَّلته على كل الرجال. فما كانت لتعبأ بالمال والجاه بقدر ما كان يهمها أن تعيش مع رجل حقيقي بما كان يعانيه من الفقر وقلة الحيلة فوقفت في وجه مَن عابوا عليها هذا الزواج الذي نُعت بأنه غير متكافئ لغناها وفقره لكنها وهي الكريمة الفطنة وهبت كل مالها لزوجها وأنيس وحشتها معلِنة لهم أن المال ماله والغنى غناه وما هي إلا فقيرة تدور في فلكه ترجو هناءه ورضاه. فأين ما تنادون به من التكافؤ الآن؟ فما كان من الحاسدين إلا أن تقهقروا أمام ذكائها وقوة حضورها وإخلاصها ووفائها لزوجها.
قبل البعثة صار عليه الصلاة والسلام يخلو كثيراً في غار حراء فيبتعد عن الناس ليتفكر في خلق الله ويتأمل ليالي طويلة فلم تتذمر سيدتنا ولم تشكو الوحدة وجفاء الزوج ولم يساور نفسها شك في وفائه لها فما كانت إلا الراضية الداعمة.
وحين نزل الروح جبريل على محمد-صلى الله عليه وسلم- معلناً نبوته واصطفاء الله له ليكون خاتم النبيين المبشر المرسَل, وحينما عاد إلى زوجته ومصدر دفئه وطمأنينته طلب إليها أن تدثره وتدفئه فقد كان خائفاً مرتعشاً مما رأى تلك الليلة فكان دثارها له حناناً وحباً ودعماً وتصديقاً مطلقاً. لم تبد استغراباً ولم تشكك بما أخبرها به, فقالت له داعِمة مهدأة واثقة " كلا والله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل (أي التعب)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" ذكرت ما فيه من حسن الخُلق وعظيم الصفات وطيب المسلك فكانت بذلك خير مطمئن و أنيس في زمن عزَّ فيه أنيسه ومؤنسه. ليس ذلك فحسب بل عمدتْ إلى اصطحابه إلى ورقة بن نوفل قريبها النصراني فأخبرته بما كان فردَّ عليها أنه نبي مرسَل جاء بالحق ولسوف يرى من قومه ما رأى غيره من الأنبياء. قامت بذلك بحسن العقل, فالدعم العاطفي وحده لا يكفي فهو رجل ويحتاج قوة أكبر ومنطقاً أسلم وفي تصرفها ذاك ما ألقى في نفسه راحة أكبر ويقيناً أجلى بأنه على حق وعليه نزل الحق. لكن عقلها الفطن أبى إلا أن يبرهن ويبرهن فكان منها ما لا يكون إلا من أذكى الناس وأعظمهم فطنة تبحث عن الحجة القوية والدليل الأبلج لا لتصدق هي - فهي المصدِّقة- بل ليزداد قلب زوجها اطمئناناً ونفسه وعقله يقيناً ونفسه راحة فطلبتْ إليه عندما يأتيه جبريل أن يخبرها فما كان أجلسته إلى شقها الأيسر فرآه وإلى شقها الأيمن فرآه وأجلسته في حجرها فرآه لكنها الفطنة اللماحة تكشفت و ألقتْ بخمارها وسألته حينها هل تراه فقال لها: لا." قالت: ما هذا شيطان، إن هذا لملك يا ابن عم، اثبت وأبشر، ثم آمنتْ به وشهدت أن الذي جاء به الحق"
إن ما جاء به النبي وما كان عليه من الخوف فرض على زوجته وقتها أن تعالجه بوسائل متسلسلة بدأت بالحب والعاطفة والدعم الفطري من الزوجة لزوجها تبعه تقديم الحجة ممن لديهم خبرة في تاريخ الأنبياء وسيرهم ومن ثم أتبعت ذلك بحجة عقلية عملية ثبت منها أن وحياً يوحي إليه صلى الله عليه وسلم. وحي حيي طاهر شفيف. في كل ذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم ليبدي تأففاً أو مقاومة لها بل كان يطيعها وينفذ ما تشير به إليه وليس ذلك ضعفاً أو انصياعاً بل هو نتاج خمسة عشر عاماً من الدعم والحب والطاعة.
وكانت الدعوة وكان الإسلام وكان أن مثَّلت هذه العظيمة نصف الأمة الإسلامية التي تدين لها اليوم كل الأمة الإسلامية. صدَّقته وآمنتْ به وقدَّمت له كل دعمها وحبها وقوتها التي كان يحتاجها صلى الله عليه وسلم.
وكان من أمر الجهر بالدعوة ما كان من عنت قريش وتكذيبها وتعذيبها للمسلمين واستهزائها به صلى الله عليه وسلم وإيذائها له. وبين كل تلك الصور كانت الطاهرة الوفية المحِبة خديجة خير رفيق وأفضل مصدِّق تمده بالقوة وتستمد منه النور تمنحه المنعة وتأخذ منه اليقين والطمأنينة.
أليست هي مَن أقرأها الله السلام و بشَّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب. " أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب" (صحيح البخاري) فماذا كان ردها وقتها؟اللبقة الرقيقة الأصيلة سليلة الشرف والنسب رفيعة العلم قالت وقتها: " إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام و عليك السلام و رحمة الله و بركاته" فليس جديراً بمن حمل إليها السلام من السلام إلا أن تتواضع وتذل إليه عز وجل تعترف بأنه السلام وأن وحيه السلام وترد السلام على مَن أوصل لها السلام,
وكان ما كان حين قاطعت قريش المسلمين ثلاثة أعوام لا تزوجهم ولا تتزوج منهم، لا تشتري منهم ولا تبيعهم, فعانوا ما عانوا من الجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. حينها كانت السيدة خديجة خير معين صبرت وتحملت, وهي امرأة ستينية كانت أحوج ما تكون للراحة في عمرها ذاك لكنها بطبعها المتفاني, ووفائها وحبها لزوجها ودعمها له ثبتت إلى جانبه تمنحه القوة والصبر والعزيمة, تجوع لجوعه وتألم لألمه, وتعاني لمعاناته.
وفي عام حَزن فيه قلب الرسول لفقد مَن أحب وألف, توفيت السيدة خديجة - رضي الله عنها وأرضاها - وسمي ذلك العام بعام الحزن. ولم لا؟ وهو العام الذي فقد فيه الحبيب أنيسَ قلبه, ووليف روحه, وسنده الداعم, ونصف قوته. في ذلك العام اغترب صلى الله عليه وسلم. في ذلك العام بدأت الهجرة؛ في العام الذي خلت فيه مكة من خديجة فكان لا بد من أرض أحن وأهل أدفأ. توفيت- رضي الله عنها- وأنزلها عليه الصلاة والسلام إلى قبرها بيديه الكريمتين. واراها التراب وودعها وفي قلبه حزن ونفسه لوعة وروحه وحشة.
رحِم الله خديجة المرأة الشريفة العفيفة الطاهرة, الزوجة القوية, الحنون الصابرة الودود. اللهمَّ أحينا بعدها بها نقتدي, واحشرنا وإياها, واجمعنا معها في جناتك حيث لا صخب ولا نصب.