العفة والحياء في عالم الحيوان 2010-11-30
بقلم الدكتور:- محمد سيف *
لمَّا خلق الله آدم وحواء وأمرهما بإعمار الأرض, أنزل من التشريعات ما يضبط العلاقة بين الذكر والأنثى في ذرية آدم , حتى تصير علاقة طاهرة نظيفة تملؤها العفة والحياء, سعياً وراء استبقاء النوع الإنساني دون اختلاط للأنساب بما يتجاوب مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها, وعلى الرغم من أن الإنسان هو المخلوق الأكرم مكانة والأكثر تفضيلاً على كثير من المخلوقات ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًِ ) ( الإسراء: 70).
إلا أن الله أنزل من الشواهد في مخلوقاته من غير الإنسان ما يدلل به على حكمة التشريع وعظمته في العلاقة بين الذكر والأنثى, في آيات باهرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فعالم الحيوان عالم ملئ بالأسرار.. فقد يظن البعض أن العلاقة بين الجنسين ليس لها ضابط أو رابط, وأن أي ذكر قد ينزو على أي أنثى تقع في طريقه, أو أن أي أنثى قد تقبل بأي ذكر تلقاه, ولكن الأمر ليس كذلك, فطائر البطريق إذا أراد التودد إلى أنثاه، يختار حصاة يتقدم بها في زهو وحنان، ويضعها تحت قدميها، فإذا التقطتها، كان ذلك دليل قبولها زوجاً لها، فيتزوجان, وإذا لم يمس وتراً في فؤادها، تركت الحصاة ولم تمسها، وعندئذٍ يعود فيلتقط حصاه وينصرف بها إلى أخرى...!!
وفي لمحة من الغيرة على الأعراض نجد أن بعض ذكور الحيوانات يعتريها حالة من الغضب الشديد أثناء موسم التزاوج تعبيراً عن الغيرة الشديدة على أنثاها, فقد وجد أن ذكور الإبل تتغير سلوكياتها في موسم التناسل بحيث لا تسمح لأيٍ كان أن يقترب من قطيع إناثها, فترى الذكر في حالة الهياج وقد أخرج كيساً منفوخاً من جانب الفم يُطلق عليه الطرف الحلقي ويصاحب ظهور الكيس صوت مزعج يرهب به مَن يسمعه, ثم يخرج إفرازات من غدد قرب الأذنين ويحك بها الأشياء في منطقة الحياض الخاصة به, فإذا ما اشتمها حيوان غريب أدرك قدر الخطر المحدق به فيولي مبتعداً عن هذه المنطقة, وتبلغ الغيرة مداها عند ذكر الشمبانزي فنجده غيوراً جداً على شريكة حياته, فعلى الرغم من أن الشمبانزي حيوان مسالم, إلا أنه يصبح عدوانياً عندما يشتبه في أن شريكة حياته غير وفية أو عندما يجدها ترحب بعرض ذكر آخر, فيصل الأمر لكثير منهم, إما أن يشوه شريكة حياته أو يخرجها من حياته عند الاشتباه في خيانتها.
ولا تقتصر قضية الغيرة على الذكور فقط, فقد وجد أن أنثى البط تغار على زوجها, فتدفعه لأن يعرب لها بالوفاء عندما تريد أنثى أخرى أن تتسلل إلى عش الزوجية السعيد, فيقوم الذكر بفرد جناحيه وفرد عنقه وطأطأة رأسه مهرولا وراء غريمة أنثاه فيدفعها ويطردها بعيداً عن حياض الزوجية الهانئ, معلناً عن عفته ووفائه لأنثاه. وإذا كان بعض الذكور في عالم الحيوان لا يقبل بغير الزوجة فإن بعض الإناث لا تقبل بغير الزوج أيضا, فقد وجد أن بعض إناث الحمام لا تقبل بغير زوجها وإن راودها زوج آخر عن نفسها فإنها تفر منه وتبتعد عنه, بل قد يدفعها الوفاء لزوجها في بعض الأحيان أن لا تقبل زوجا آخر حتى بعد مماته.
وقد تجد بعض الحيوانات و قد تزيت بزي الحياء الذي قد يخلعه كثير من بني آدم أثناء عملية الالتقاء بين الزوجين, فالإبل في البرية غالبا ما تقوم بهذه العملية مستترة عن أعين الآخرين, كما وجد أن كلا من ذكر وأنثى الحمام يقومان بخفض ذيليهما وجره على الأرض بعد إتمام عملية الجماع إعراباً عن حالة الخجل والحياء التي تعتريهم بعدها, كما أظهرت دراسة علمية حديثة أن عملية تزاوج ذكر الإخطبوط الأسترالي تتم غالباً في الظلام، لذا فإنه لا يعرف ما إذا كان يتعامل مع ذ كر أو أنثى إلا بعد أن يتحسس هدفه.
ويتحقق التزاوج بعد أن يدس الإخطبوط أحد قوائمه في جسد الآخر، لذا فقد يغازل ذكر الإخطبوط خطأَ ذكراً مثله على أنه أنثى لكن هذا اللقاء ينتهي سريعاً وبشكل ودي، أما اللقاء بين ذكر الإخطبوط وأنثاه فقد يطول لأكثر من ساعة ونصف الساعة ليتأكد من نجاح عملية التخصيب.
وحتى لا تختلط الأنساب فإن الله فطر ذكور بعض الحيوانات أن تلجأ إلى حيل عجيبة تكرّس فيها الكثير من الجهد والوقت للاطمئنان على أن تكون هي الآباء للأجيال القادمة وليس غيرها, فقد وجد أنه أثناء عملية التزاوج في العناكب, يترك الذكر جزءاً منه بداخل الأنثى لكي يقطع الطريق على المنافسين من الذكور الآخرين ويضمن وجود ذرية خالصة من صلبه لا تختلط بـأنساب الآخرين !!!.
أما ذباب الموز فان السائل المنوي يحوي مادة سامة ذات تأثير بطئ إلى درجة أنه يقضي على الأنثى تماماً ولكن بعد وضع البيض الملقح، وبالتالي يصبح الذكر القاتل هو الأول والأخير في حياتها. وفي أنواع عديدة من الذباب والبعوض يمتلئ السائل المنوي لدى الذكور بخليط هرموني يجعل الأنثى عازفة عن المعاشرة بعد ذلك كليا ً.أما بعض الحيوانات لديها طريقة أخرى، فعالة، لمنع اختلاط "الأنساب"، وهي إغلاق الفتحة التناسلية للأنثى بعد عملية الجماع، بحيث يمنع حصول جماع آخر قبل تلقيح البويضات, فمثلاً نجد أن ذكر الفئران المنزلية يحتوي سائله المنوي على مادة تحوله إلى مادة صلبة تغلق الفتحة التناسلية عند الأنثى لفترة تكفي لتلقيح البويضة عند الإناث. أما عند الكلاب فإن الأنثى تقوم بالضغط على العضو الذكري بحيث لا تسمح له بالتنصل بعد انتهاء القذف، وذلك لتعطي الفرصة لمنويات الذكر - الذي اختارته - للوصول إلى البويضة لتلقيحها، ثم ترفض بعدها أي ذكر يتقدم إليها.
أياً كانت العادة الجنسية التي يكررها نوع ما من الحيوان فإن التناسل وحفظ النوع أساسا يبقى هو الهدف ً. فأنثى الحيوان لا تسمح باقتراب الذكر منها إلا لفترة قصيرة جدا، ولا يكون ذلك إلا أثناء دورة الشبق (Estrous cycle) (الدورة النزوية أو الاحترار ) والتي قد تكون موسمية أو قد تكون دورية, حيث تكون الأنثى جاهزة لعملية الجماع والتزاوج مع الذكر, ويكون المبيض في قمة نشاطه منتجا عددا من البويضات الجاهزة للتلقيح, كما أن المبيض يفرز أثناء هذه الدورة بعض الهرمونات والتي تكون مسئولة عن التغيرات السلوكية والجسدية التي تطرأ على الأنثى وقت الرغبة في الجماع, وتستمر أعراض الدورة في الأنثى من عدة ساعات إلى عدة أيام في حالة عدم إتمام التزاوج, ولكن إذا تمَّ الجماع بين الذكر والأنثى فإن أعراض الرغبة في الجماع تنتهي بعد ذلك بفترة وجيزة. فأنثى الحيوان تتقبل الذكر- فقط - وهي مهيأة تماما للحمل بمجرد التلقيح، وما إن يتحقق الحمل حتى ترفض الأنثى الذكر طول العام، أو طول الوقت.
وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على بني آدم بهذا السلوك الذي ينم عن العفة والحياء في بعض مخلوقاته, والتي هي دون الإنسان في القدر والمكانة, فأولى بالإنسان أن يحيا بمعالم ومعاني العفة والحياء ولا يسبقه في ذلك أي كائن, حتى يظل محافظا لصدارته فوق كثير من خلق الله, فيحظى بحياة نقية وطاهرة ويبلغ مرضاة ربه الذي أمره بذلك وطلبه منه, بما فيه صالحه وهناءة عيشه.
قال الله تعالى في كتابه العزيز
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) ) سورة الأنعام..