بقلم الأستاذ:- جمال زواري أحمد *
ذكر الناس رجلاً عند عمر رضي الله عنه، وأثنوا عليه خيرا فقالوا: إنه لا يعرف الشر أبداً.
فقال عمر: ذاك أجدر أن يقع فيه.
إن التعرف على الشر وأهله، والتفطن بل الخبرة بأساليبه وكيده ومؤامراته ومداخله ومخارجه، وفقه مخططاته وعدم الانخداع بها، قضية لابد منها لكل مَن يريد أن تكون له قدم تمكين بدينه ودعوته وحركته ومبادئه في ساحات الصراع وميادين التدافع وأساليب المناورة، وتفويت الفرصة على أهل الكيد والشر الذين يريدون توريطه، ويسعون إلى إيقاعه في دوائر تحكمهم، ومن ثمّ استغلاله فإقصاؤه وتهميشه وإزاحته من الساحة، فعليه أن يكون كالفاروق رضي الله عنه الذي قال عن نفسه: (لست بالخبّ، ولا الخبّ يخدعني).
وقد يفهم كثير من الناس الطيبة خطأ، كما فهمها الذين أثنوا على الرجل في حضرة عمر، ويتصورون أن الطيب هو ذاك الذي لا يعرف الشر، ذاك المنكمش على نفسه، الذي لا يعرف شيئا عن أساليب الكيد وطرق المكر، فهذه في الحقيقة ليست طيبة وإنما هي غفلة وعجز وسلبية وبلادة، ويكون صاحبها عرضة للاحتواء والاستغلال، من حيث لا يعلم فيكون وبالا على الدعوة والحركة، إن كان من أهلها فإنه: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهلية )، كما قال عمر رضي الله عنه..
وقد كان سيدنا حذيفة بن اليمان كاتم سر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أساله عن الشر مخافة أن أقع فيه).
وقديما قال الشاعر الحكيم:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقّــيـــــــه
ومَن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه
بل يستطيع الموازنة حتى بين الشرور، كما قيل: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين).
وقد عدّ الإمام ابن القيم معرفة الشر من صفات المؤمن الأساسية، بحيث يستطيع أن يسد أبواب الشر وأهله على نفسه، وأن يرد سهامها إلى نحور أصحابها، وأن يفقه مخططاته، ويتفطن لحيله، ولا يغتر أو يستغفل بمشاريعه ومغرياته، فقال رحمه الله: (وهذه حال المؤمن، يكون فطنا حاذقا أعرف الناس بالشر وأبعدهم منه، إذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته، رأيته من أبر الناس، والمقصود أن مَن بلي بالآفات صار مِن أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى مَن استنصحه من الناس، ومَن لم يستنصحه).
فإذا كان كل منّا يملك هذه العقلية، صارت الدعوة والحركة التي نعمل لها، عندها المناعة الكافية ضد كل أنواع الكيد والمكر، أمّا أن نتعامل بعقلية غفلات الصالحين ومَن خدعنا بالله انخدعنا له، فإن المصير يكون الوقوع في شباك وفخاخ الأعداء والخصوم ودوائر تحكمهم.
فالوقوع في الشر رذيلة، والاستسلام له ولأهله والانخداع به حمق وعجز وفشل، أما معرفته وفقهه والحذر منه وتحويل تياره إما بالرجوع على صانعيه، وإما بتوظيف تناقضاته لخدمة الحق، فواجب يفرضه الواقع ويؤصله ما نقلناه، ويبرره ما تعرض له غيرنا.