حلاوة حب الله ورسوله
د. أحمد عبد الخالق
حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإن تأملاتنا في هذه الحلقة تدور حول الحب الصادق لله ورسوله، هذا الحب، الذي يجعلك تجد للإيمان طعمًا ومذاقًا خاصًّا، لا يمكن أن يشعر به أحد إلا إذا جعل حب الله ورسوله في كفة، وكل شيء آخر في كفة أخرى، أي عندما تُضحي بكل شيء بالآباء، والأبناء، والإخوة، والأزواج، والعشيرة، والمال، والتجارة الرابحة، والمساكن الفاخرة، وتترك كل شيء من أجل الله ورسوله.. هذا الحب الذي جاءت به الآيات من فوق سبع سماوات، وهي تقول: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).
هذه الآية من سورة التوبة، أو من سورة براءة، وهذه السورة مدنية ومن أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثَمَّ فقد تضمنت أحكامًا نهائيةً في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض، كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته, وتحديد قيمه ومقاماته, وأوضاع كل طائفة فيه، وكل طبقة من طبقاته, ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفًا دقيقًا مصورًا مبينًا.
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك، يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة، ولكنها لم تنزل دفعة واحدة، ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع, إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام، والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة، ثم في ثناياها، والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها، فقد نزلت متأخرةً في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة، أو في ذي الحجة.
ولهذه السورة عدة أسماء: منها التوبة، لقوله تعالى: فيها ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾ (التوبة)، وتُسمَّى بالفاضحة. أخرج أبو عبيد، وابن المنذر وغيرهما، عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سورة التوبة.
قال: التوبة، بل هي الفاضحة. ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحدٌ منا إلا ذكر فيها.
وتُسمَّى بسورة العذاب.. أخرج الحاكم في مستدركه، عن حذيفة قال: التي يسمون سورة التوبة، هي سورة العذاب.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جبير قال: كان عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه-، إذا ذُكر له سورة براءة، وقيل: سورة التوبة. قال: هي إلى العذاب أقرب، ما أقلعت عن الناس، حتى ما كادت تدع منهم أحدًا. وتسمى بالمقشقشة.. أخرج ابن مردويه وغيره، عن زيد بن أسلم، أن رجلاً قال لعبد الله: سورة التوبة. فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة؟ فقال: براءة، فقال رضي الله تعالى عنه: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي. ما كنا ندعوها، إلا المقشقشة، أي المبرئة، ولعله أراد عن النفاق.
وتُسمَّى بالمنقرة.. أخرج أبو الشيخ، عن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة، نقرت عما في قلوب المشركين.
وتسمى بالبَحوث، بفتح الباء صيغة مبالغة، من البحث بمعنى اسم الفاعل.. كما روى ذلك الحاكم عن المقداد.
وتسمى بالمبعثرة.. أخرج ابن المنذر، عن محمد بن إسحق قال: كانت براءة تسمى في زمان النبي- صلى الله عليه وسلم- وبعده المبعثرة، لما كشفت من سرائر الناس.
وذكر ابن الفرس أنها تُسمَّى الحافرة أيضًا؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين. وروي ذلك عن الحسن. وتسمى بالمثيرة. كما روي عن قتادة؛ لأنها أثارت المخازي والقبائح. وتسمى بالمدمدمة. كما روي عن سفيان بن عيينة.
وتسمى بالمخزية والمنكلة والمشردة. كما ذكر ذلك السخاوي وغيره. وتسمى بسورة براءة. فقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وغيرهما، عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه-: تعلموا سورة براءة. وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين.
ووجه مناسبتها للأنفال:
أن في الأنفال قسمة الغنائم، وجعل خمسها لخمسة أصناف، وفي سورة التوبة قيمة الصدقات، وجعلها لثمانية أصناف.
وفي الأنفال أيضًا ذكر العهود، وفي التوبة نبذها، وأنه تعالى أمر في الأنفال بالإعداد، فقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60). ونعى في التوبة على المنافقين عدم الإعداد للخروج بقوله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة)، وأنه سبحانه ختم الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضًا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وصرَّح جل شأنه في التوبة بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة: من الآية 1) إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعَودًا إلى الآية مرة أخرى، كي نعيش في ظلالها، ونستنشق رحيقها، لعلنانتذوق طعم الإيمان، وحلاوة الحب، فتهنأ نفوسنا، وتستريح قلوبنا، ونسعد بحب الله ورسوله، وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومَن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار". (متفق عليه).
ليس كل من يزعم أنه مؤمن، يشعر بطعم الإيمان، ولكن الذي يشعر بطعم الإيمان، هو الذي توفرت فيه صفات معينة، أثبتتها التجارب، ومحصتها المحن والابتلاءات، فخرج منها منتصرًا فائزًا بحب الله ورسوله، وأول صفةٍ من هذه الصفات: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وهذا المعنى زادته الآية وضوحًا؛ حيث قال رب العالمين: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)﴾ (التوبة).
إن الإسلام لا يمنع أحدًا أن يحب بنيه، أو أبويه، أو إخوانه، أو زوجته، أو عشيرته، أو ماله، أو تجارته، أو مسكنه، فالحب أمرٌ فطري، قد فَطَرَ الله الإنسان عليه، ولكن إذا تعارض حب هذه الأشياء مع حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فلينتظر هذا الإنسان المصير المحتوم، مصير الفاسقين ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده, وإنما تطالب به الجماعة المسلمة, والدولة المسلمة، فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف, إلا وهو يعلم أن فطرتها تُطيقه- فالله لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها- وإنه لمن رحمة الله بعباده، أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال، وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها، لذة الشعور بالاتصال بالله, ولذة الرجاء في رضوان الله, ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط, والخلاص من ثقلة اللحم والدم, والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك.
وثاني هذه الصفات: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله" وهذه الصفة من مقتضيات حب الله ورسوله، فالحب في لله والبغض في الله، مما يجعل حياة المسلم على أمر الله، وحينئذ يكون كل شيء في الحياة على هوى الله ورسوله، وهذا ما يجعله يتذوق طعم الإيمان: فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".
وثالث هذه الصفات: "أن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف به في النار"، وهذه الصفة أيضًا من مقتضيات حب الله ورسوله، إذ إن المؤمن يتلذذ بالإيمان، ولا يحب أن يفارقه إلى الكفر والمعاصي، كما أنه لا يحب أن يلقى به في النار.
إنها نعمة الطاعة، ونعمة الشكر، ونعمة الحب في الله والبغض في الله، ونعمة الأخوة في الله، نسأل الله تعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى.. إنه نعم المولى ونعم النصير.