المطلب الأول: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة:
من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به عرضًا من الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا.
والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس، ليروه ويعظِّموه ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضًا إرادة للدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس وطلب الإكرام منهم والمدح والثناء.
أما العمل للدنيا فهو أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا لا يقصد به الرياء للناس، وإنما يقصد به عرضًا من الدنيا: كمن يحج عن غيره ليأخذ مالاً، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، فالمرائي عمل لأجل المدح والثناء من الناس، والعامل للدنيا يعمل العمل الصالح يريد به عرض الدنيا وكلاهما خاسر نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه(22).
وقد جاءت النصوص تدل على خسران صاحب هذا العمل في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 16]، وقال عز وجل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 17]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال سبحانه وتعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 200].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علمًا مِمَّا يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمُهُ إلا ليُصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها(23).
وعن جابر رضي الله عنه يرفعه: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيّروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار"(24).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى وينفذ ما سواه"(25).
ولهذا تكفل الله بالسعادة لمن عمل لله، فعن أنس يرفعه: "من كانت الآخرة همّهُ جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له"(26).
المطلب الثاني: أنواع العمل للدنيا:
العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع:
النوع الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله تعالى: من صدقة، وصلاة، وإحسان إلى الناس، ورد ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصًا لله تعالى؛ لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله، وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليه وعليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج عن غيره لمال يأخذه، ولا يقصد بذلك وجه الله ولا الدار الآخرة، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، أو يتعلم العلم ليحصل على الشهادة وعلى الجاه، ولا يقصد بذلك وجه الله مطلقًا، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة؛ لأجل وظيفة المسجد أو غيره من الوظائف الدينية، ولا يريد بذلك ثوابًا مطلقًا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يُكَفِّره كفرًا يخرجه عن الإسلام، كمن يأتي بناقض من نواقض الإسلام. ذُكِِرَ ذلك عن أنس رضي الله عنه وغيره(27).
فليحذر المسلم مما يحبط عمله ويعرضه لسخط الله وغضبه، وليحذر جميع المسلمين من هذه الأنواع الفاسدة نعوذ بالله منها