ولعل نظرية العاملين هي أولى النظريات التي تناولت بنية العقل البشري بطريقة علمية. ومع ما لها من فضل في تطور القياس النفسي، فإنها لم تخل من نقائص وعيوب. وقد انتقد العديد من العلماء فكرة العامل العام وأشاروا إلى الإجراءات الخاطئة التي قادته إليها. ومن هذه الإجراءات الاعتماد على عدد قليل من الاختبارات والاقتصار على قياس القدرات الحسية البسيطة فقط وتطبيقها على عينة صغيرة من تلاميذ المدارس الابتدائية. ولهذا فالعامل العام، بالنسبة لنقاد سبيرمان، ليس سوى فرضية لم يستطع صاحبها إثباتها. ويعتبر ثورندايك وثرستون وجيلفورد وتومسون من أبرز هؤلاء النقاد.
لقد عارض ثورندايك فكرة العامل العام بشدة. ومن موقعه الارتباطي السلوكي فسر الذكاء بالارتباطات العصبية التي تتكون من المنبهات والاستجابات خلال تفاعل الفرد مع محيطه واعتقد أن مستوى الذكاء يتناسب طرداً مع عدد تلك الارتباطات. فكلما كانت كثيرة ومعقدة، كان الفرد أكثر ذكاء.
وعلى الرغم من أن ثورندايك ينظر إلى الذكاء كنتاج لنشاط الجهاز العصبي فإنه كان أميل إلى تقسيم النشاط العقلي إلى وحدات عديدة ومستقلة تقوم كل منها بعملها بمعزل عن الوحدات الأخرى. وما نلاحظه من علاقات ارتباطية بين العمليات العقلية ينسبه ثورندايك إلى عناصر مشتركة بين تلك العمليات وليس إلى وجود ما يسمى بالعامل العام.
وتوصل ثورندايك في نهاية دراسته إلى تقسيم الذكاء إلى ثلاثة أنواع: الذكاء المجرد، الذكاء الاجتماعي، والذكاء الميكانيكي. وقد أكد على ضرورة احترام هذا التصنيف وعدم الخلط بين أنواع الذكاء الثلاثة عند وضع رائز للذكاء.
وبالإضافة إلى الروائز التي وضعها ثورندايك لقياس القدرة على التحصيل الدراسي عند التلاميذ قام بتصميم رائز لقياس الذكاء المجرد عرف باسم
( CAVD ). ويتألف هذا الرائز من أربعة اختبارات فرعية هي اختبار إكمال الجمل( C )، واختبار الاستدلال الحسابي( A )، واختبار المفردات( V )، واختبار تنفيذ التعليمات( D )(الخضري، 1976، 128-130).
ومن الموقع ذاته عارض جودفري تومسون G. TOMSON نظرية العاملين. وقد اقترنت نظرية العينات باسم هذا العالم وتقوم هذه النظرية على ربط الذكاء بالوصلات العصبية في الجهاز العصبي للجسم الحي. فدرجة ذكاء الكائنات الحية تتفاوت بتفاوت درجة تعقيد الجهاز العصبي الذي تملكه. ولما كان الإنسان يمتلك جهازاً عصبياً معقداً بالمقارنة مع بقية الحيوانات فإنه يتفوق عليها جميعاً بذكائه وقدراته العقلية. ووفقاً لمعيار تعقد الجهاز العصبي وإمكانيته على تكوين الارتباطات العصبية يفسر تومسون الاختلاف القائم في مستوى الذكاء عند الناس.
وتتضمن المرحلة الثانية من نظرية تومسون في محاولته تحليل الارتباطات العصبية إلى وحدات بسيطة ومستقلة دعاها "القدارت البسيطة". بيد أن ذلك لا يعني – بالنسبة له-أن كل قدرة تقوم بمهامها المحددة بمعزل عن القدرات الأخرى، بل إنها تقوم بأكثر من نشاط وتسهم مع غيرها في أداء مهمة واحدة. وعليه يمكن أن يفسر الارتباط الجزئي الموجب بين الروائز. فزيادة أو نقصان درجة هذا الارتباط أمر يتوقف على درجة تشابه أو اختلاف المهمات(المنبهات) التي تطرحها الروائز وعلى عدد القدرات المشتركة التي تستحثها تلك المهمات.
أما ثرستون صاحب نظرية القدرات العقلية الأولية فقد حرص في نشاطه على تفادي الأخطاء المنهجية التي ارتكبها سبيرمان. فقام بتصميم مجموعة من الروائز المتنوعة بلغت ستين رائزاً بحيث تكون قادرة على قياس الوظائف العقلية المختلفة، وطبقها على 240 طالباً جامعياً. ولدى تصحيح إجابات المفحوصين وحساب معاملات الارتباط بينها في جميع الروائز وتحليل تلك المعاملات باستخدام "الطريقة المركزية" توصل إلى وجود قدرات عقلية مستقلة هي:
التصور المكاني والبصري .
السرعة الإدراكية .
القدرة العددية .
الطلاقة اللفظية .
القدرة على التذكر .
القدرة على فهم معاني الكلمات .
القدرة الاستقرائية.
القدرة الاستنتاجية.
ومع أن نظرية القدرات العقلية الأولية تعتبر امتداداً لنظرية القدرات الطائفية، فإنها تختلف عنها مثلما تختلف عن النظريات السابقة من حيث تصور بنية العقل. فنظرية القدرات الطائفية تأثرت بأفكار ثورندايك، ولكنها لم تبن على أساسها. ففي حين أقام ثورندايك حدوداً بين أنواع الذكاء الثلاثة وأوصى بوضع رائز لكل منها، وجد ن. كاري N.CAREY وت. كيلي. T.KELLEY أن النشاط العقلي يتكون من عدد من القدرات الطائفية، واقترحا بناء مجموعة من الروائز لقياس كل منها.
وأمام هذا الوضع حاول بيرت التوفيق بين هذه الأفكار المتعارضة. فقد قادته بحوثه إلى نتيجة مفادها أن النشاط العقلي يتألف من قدرة عامة وقدرات طائفية وأخرى نوعية أو خاصة. ولذا فإن أي رائز للذكاء يجب أن يقيس العامل العام والعامل الطائفي والعامل النوعي وعامل الصدفة أو الخطأ( BURT, 1940 ).
وقد مثل ف. فرنون PH.VERNON توضع هذه القدرات في العقل البشري بهرم تحتل القدرة العامة قمته وتليها القدرات الطائفية ثم النوعية(الخضري، 1976، 162-165).
ومع ازدياد عدد البحوث والدراسات التي أجريت في هذا الميدان تم اكتشاف قدرات عقلية جديدة. ووصل عدد القدرات المكتشفة حتى عام 1960 نحو خمسين قدرة. ولقد دأب العلماء على الإفادة من هذه المعطيات في رسم تصور للبنية العقلية عند الإنسان. وكان من نتيجة ذلك أن قسموا القدرات العقلية إلى قسمين حسب محتواها والعمليات التي تؤديها. ثم جاء جيلفورد فأضاف إلى هذين البعيدن(المحتوى والعمليات) بعداً ثالثاً، هو بعد النواتج . وضمن بعد المحتوى أربعة أنواع هي الأشكال والرموز والمعاني والسلوك. وميز في بعد العمليات بين خمسة أنواع، هي: الإدراك والتذكر والتفكير التقاربي والتفكير التباعدي والتقويم. وقسم النواتج إلى ستة أنواع هي: الوحدات والفئات والعلاقات والتحويلات والمنظومات والتضمينات.
وعلى هذا الأساس وجد جيلفورد أن هناك 120 قدرة عقلية يتألف منها العقل. ويذكرنا هذا التصنيف بالتصنيف الدوري للعناصر الموجودة في الطبيعة الذي قدمه العالم الكيميائي ماندليف. واعتقد جيلفورد أن تصنيفه يغطي كافة أوجه النشاط العقلي للإنسان، وأنه بعمله هذا إنما يساعد على الكشف عن القدرات التي أوردها في تصنيفه والتي لم تكتشف بعد تماماً مثلما فعل ماندليف حينما فسح المجال أمام اكتشاف العناصر الكيميائية التي تنبأ بوجودها وحدد أوزانها الذرية ومواقعها بين العناصر الأخرى.
وللتحقق من هذه الفرضية أجرى جيلفورد ومعاونوه سلسلة من البحوث طبقوا فيها روائز واختبارات عديدة. وبفضل ذلك أمكنهم اكتشاف بعض القدرات الجديدة. وتتحدث الأدبيات المختصة عن 112 قدرة تم اكتشافها حتى الآن. وتتوزع هذه القدرات على النحو التالي: 28 قدرة إدراكية تذكرية و 15 قدرة من قدرات التفكير التقاربي و 32 قدرة من قدرات التفكير التباعدي و 18 قدرة تقويمية.
ومع أن نظرية جيلفورد تتمتع بقدر كبير من الاتساق والتنظيم مقارنة بغيرها من النظريات، إلا أن ذلك لم يجعلها في مأمن من الانتقادات التي مست الجانب المنهجي منها، كما مست الجوانب التقنية والوسائل والأدوات المستخدمة. ومن بين هذه الانتقادات ثقة جيلفورد بنتائج الاختبارات التي أجريت في مخبره في جامعة ساوث كاليفورنيا بالرغم من قلة عددها وصغر حجم العينة واعتمادها كلياً على اللغة وإغفالها الأداء الحركي وبقاء العلاقة بين القدرات المختلفة دونما توضيح أو تعيين.
لقد نجم عن هذا التباين في وجهات نظر العلماء ظهور أعداد كبيرة من المقاييس والروائز وكل مقياس أو رائز منها يعكس وجهة نظر صاحبه.
وما دمنا نتحدث عن القدرات فإنه يتوجب علينا أن نشير إلى اختلاف عددها ومكوناتها وحدودها وعلاقاتها بعضها ببعض من نظرية إلى أخرى وخاصة النظريات التي استخدمت التحليل العاملي. وللمثال فقد وجد ثرستون في بحث قام به عام 1948 أن القدرة اللغوية تتضمن ما يلي: فهم الألفاظ( V ) والطلاقة في اختيار الألفاظ واستعمالها بشكل صحيح( W ) والمرونة الذهنية في التعامل مع الألفاظ( F ). بينما تحدث كارول CARROL عن تسعة مركبات لهذه القدرة وهي: القدرة على التذكر والقدرة على تعلم الوحدات اللغوية واسترجاعها والقدرة على التعامل مع العلاقات المنطقية والقدرة على تأليف موضوع بسهولة وبسرعة والقدرة على استدعاء الكلمات المناسبة وإنتاجها والقدرة على التعبير الشفهي والقدرة على تسمية الأشياء والقدرة على النطق السليم، والقدرة على الكتابة بسرعة ودقة. وتحصي نادية محمد عبد السلام في دراسة قامت بها عام 1974 سبعة عوامل لفظية(الخضري، 1976، 170، 171):
عامل الفهم اللفظي
طلاقة الكلمات
عامل الهجاء والقواعد
الطلاقة الارتباطية
إدراك العلاقات اللفظية
الاستدلال اللفظي
الذاكرة اللفظية
وفي دراسة كوكس COX وستنكويست STENQUIST تم استخلاص مكونين للقدرة الميكانيكية: الفهم الميكانيكي ومعرفة القواعد الميكانيكية. بينما انتهى باترسون وسيشور إلى القول. بوجود قدرات ميكانيكية متنوعة ومنفصلة تتكون بشكل أساسي من القدرات اليدوية والتناسق الحسي والحركي. أما أحمد زكي صالح فإنه يميز في القدرة الميكانيكية بين جانب إدراكي- معرفي وآخر عملي. فالجانب الأول يتضمن العلاقات بين الأشكال والرسوم الهندسية. والجانب الثاني يتكون من عدد من القدرات البسيطة التي تتمثل في القدرة على تركيب الأجهزة بسهولة والقدرة على تتبع حركتها والقدرة على معالجتها(المرجع السابق، 186-178).
وبإمكان الباحث أن يقف على أوجه الاختلاف بين العلماء حول الاستعداد والتحصيل مثلما وجدها عند مطالعة آرائهم حول القدرات العقلية. فالاستعداد، عند معظمهم، يعني الموهبة الخاصة التي تولد مع الفرد. بينما يقصدون بالتحصيل تلك المعارف والخبرات التي يكتسبها الفرد خلال حياته أو في فترة زمنية محددة. ولقد أدى هذا الفهم إلى ظهور نوعين من الروائز، يعنى الأول بقياس الاستعدادات، والثاني بقياس مستوى التحصيل.
وعلى الرغم من التراجع الملحوظ في العقود الأخيرة عن هذا الفصل التعسفي بين مفهومي الاستعداد والتحصيل فإنه ما زال هناك من يفرق بينهما، ويعزو الفروق النفسية بين البشر إلى استعداداتهم الفطرية أو الموروثة، ويدعو إلى اقتفاء خطا جونسون أوكونور JOHNSON OCONNOR صاحب كتاب "هكذا ولد" في باب مقاييس خاصة بالاستعدادات.
إن الدراسات الحديثة تقدم الدليل تلو الدليل على أن مقاييس الاستعدادات تقيس أكثر ما تقيس مختلف مستويات القدرات والخبرات والمهارات التي تعلمها الفرد. كتبت تايلر حول هذا الموضوع تقول: "فالقدرة التي تقيسها اختبارات الاستعداد الميكانيكي، على سبيل المثال، إنما هي جزئياً نتاج الخبرة الميكانيكية. والقدرة التي يقيسها اختبار الاستعداد الكتابي، إنما هي جزئياً نتاج الخبرات التي أدّت إلى مهارة الفرد في إدراك التفاصيل الدقيقة، وكذلك القدرة التي تقيسها اختبارات الاستعداد الموسيقي، إنما هي تعكس جزئياً التدريب الموسيقي. ففي الممارسة العملية نحن لا نستطيع أن نستخلص المكونات "الطبيعية" من المكونات "المكتسبة" لأي استعداد من الاستعدادات، ولو أنه يمكن أن نفكر في كل منها على حدة إذا شئنا ذلك"(تايلر، 1985، 87).
وإذا سلمنا بوجود استعداد أو استعدادات فطرية لدى الإنسان، فإننا نعتقد أن ذلك إنما يتمثل في استعداده العام للتعلم من الآخرين واكتساب خبراتهم وتجاربهم أثناء ذلك.
ولعل النظرة الفاحصة إلى النظريات السابقة تضعنا أمام حقيقة مؤداها أن العلماء والباحثين الذين استخدموا التحليل العاملي تناولوا العقل باعتباره منظومة من العمليات العقلية التي ترتبط بنيوياً بالأفعال العملية دون أن يتتبعوا التغيرات التي تطرأ على المحتوى المادي للتفكير في مجرى النشاط الذهني. ومع أن البعض منهم تعرض لهذه المسألة، إلا أن ذلك لم يكن سوى مجرد إشارات عابرة. فالحديث عن جوانب وعلاقات جديدة تتجه نحوها العمليات العقلية تبعاً لما يقوم به الفرد من نشاط عقلي لحل المشكلات التي يطرحها المحيط يعتبر لحظة هامة على طريق دراسة الموضوع بعمق وشمولية. وهو ما قام به بالفعل عدد من هؤلاء العلماء. واللحظة التالية التي لا تقل أهمية عن الأولى تتمثل في التعرف على قوانين تغير المحتوى المادي للنشاط العقلي وكيف يتبدل إدراك الفرد لمحتوى المشكلة أو المسألة أثناء حلها. وهذا ما أغفله الجميع ولم يكلف أي منهم نفسه بتحمل هذه المهمة.
وهكذا يظل السؤال القديم عن علاقة آليات النشاط العقلي بمحتواه مطروحاً دون أن يلقى لدى أنصار منهج التحليل العاملي حلاً له.
¾ ¾