الحمد لله البر الجواد الكريم، القابض الباسط الرحمن الرحيم، أحمده تعالى على فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والأيتام، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصدقة من أسباب الوقاية من النار ولو كانت باليسير، قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» متفق عليه( ).
وهي دليل على صدق إيمان العبد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»( ).
فهي برهان على إيمان العبد، لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تغلب المسلم على نفسه، وأنفق في سبيل الله، كان ذلك برهان على أنه يقدم مرضاة الله ومحبوباته على محبوبات نفسه، -( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)- [التغابن/16]
قال الحسن البصري رحمه الله: (إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله فانظر فيما أنفقه، فإن الخبيث ينفق في السرف).
وما أجمل عمل المنفق أو المتصدق عندما يكون سببا في مسح دموع مكروب، أو إدخال السرور على قلب فقير معدوم، أو يتيم فقد حنان والديه، أو تفريج عن مسجون في دين ونحوه، إنها السعادة، لا توزن بأموال الدنيا يهبها الله تعالى لعباده المحسنين المنفقين -( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)- [آل عمران/134].
دخل أعرابي قد ضربه الفقر وأصابته الفاقة على عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ومعه صبية صغار، لا يجد ما يسترهن به فقال شعرا، ذكر فيه السؤال يوم القيامة، فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته، ثم قال: (يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، أما والله لا أملك غيره).
هذا عمر رضي الله عنه الذي تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان.
يقول رضي الله عنه عام الرمادة الذي أصاب الناس فيه الفقر: (والله لا أبتل بسمن ولا آكل سمينا حتى يجلي الله الكربة عن المسلمين).
وقال مرة لمولاه أسلم: أتنام الليل قال: نعم قال عمر: (والله ما نمت من ثلاث، فقد جعل الله في عنقي الأرملة والمسكين والشيخ الكبير والعجوز واليتيم).
عباد الله:
لقد بلغ من رحمته رضي الله عنه أنه كان يسأل عن أطفال المسلمين، ماذا أكلوا وماذا شربوا وكيف ينامون وهذه هي الرحمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله ومن نسي حقوق الناس وآلامهم ومشكلاتهم، عرض نفسه أن يُنسى وأن يُحرم الخير والإحسان، وكم هو مذموم بالمسلم أن يشبع وجاره جائع، وأن يلبس أفخر الثياب وجاره أو أخوه المسلم لا يجد ما يستر به عورته، أو ينبسط وجاره أو قريبه و أخوه المسلم في السجن بسبب دين ونحوه، لا يسعى في تفريج همه، وتنفيس كربه.
وإذا كان المسلم لا يستطيع أن يسدد ما على المسجون من دين فليساعد في ذلك عن طريق اللجنة الوطنية لرعاية السجناء، فإنه من التعاون على البر والتقوى، ويجوز صرف الزكاة للفقراء والمساكين والغارمين من المسجونين وغيرهم عن طريق اللجنة، فعلى المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى يقول صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» ( ).
وفي الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» رواه مسلم وغيره( ).
فاتقوا الله عباد الله، وانتفعوا بأموالكم ما دامت في أيديكم بالتقرب إلى الله والمسارعة إلى ما فيه رضاه -(آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)- [الحديد/7].
ابتغوا بأموالكم الضعفاء والمساكين وفرجوا عن المسجونين الغارمين وأنظِروا المعسر منهم قال تعالى: -(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)- [البقرة/280-281].
فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، -( أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)- [البقرة/267].
فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فتربوا عنده حتى تكون أعظم من الجبل العظيم.
وذكر صلى الله عليه وسلم «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ -فعد منهم- «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ متفق عليه( ).
وقال تعالى: -(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)- [التوبة/104].
عباد الله:
وإخراج الزكاة والنفقة الواجبة أفضل من صدقة التطوع لقوله تعالى: -(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)- [التوبة/103].
فهي مزكية للنفوس ومطهرة من الذنوب وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه( ).
ومما افترض الله عليه الزكاة والنفقة الواجبة، فيا أهل الدثور لا تفوتنكم الأجور، هنيئا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لا يريدون في ذلك إلا وجه الله، -(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)- [البقرة/261].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله:
اتقوا الله تعالى، وأنفقوا مما رزقكم الله، واحذروا من البخل بما آتاكم الله فلقد ضرب الله تعالى في كتابه الكريم أبلغ المثل لحال الذين يكنزون الأموال ويبخلون بها، بقارون قال عز وجل: -(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)- [القصص/76].
فلما كفر النعمة ورفض الإحسان والشكر قال الله تعالى: -(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)- [القصص/78] خسف الله به وبداره الأرض -( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)- [القصص/81] -( وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)- [فصلت/16].
وقال عز وجل: -( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)- [التوبة/34-35].
عباد الله:
وإن في الناس فقراء لا موارد لهم، ونسوة لا عائل لهن، وأيتاما لا آباء لهم، وغارمين مسجونين عاجزين عن تسديد ما عليهم من ديون، وعاجزين عن النفقة على أولادهم، يتقطعون حسرات ،قد تحجر الدمع في أعينهم أزرى بهم الفقر وهم ذو شرف، وأخرتهم الحاجة عن المسابقة إلى الفضل، ولا عجب:
فالفقر يزري بأقوام ذوي حسب
وقد يسود غير السيد المال
في حين أن بعضا من المسلمين يتخوضون في مال الله بغير حقه، وكم يرى المسلم في رمضان، من موائد وصنوفا من الطعام متنوعة، لا يؤكل منها إلا القليل ثم ترمى، فأين التعاطف وأين الرحمة، وأين الصالحون الصائمون، الذين يحملون بين جوانحهم أفئدة رقيقة ونفوسا رحيمة، هذبها الصيام والقيام، تتسابق إلى الخيرات، وكم هو جميل بالمسلم أن يحنو على إخوانه من الفقراء والمساكين، الذين تقطعت بهم السبل عندها تزكوا نفسه وتسموا، كلما كان سببا في تفريج كربة، أو تضميد جراحات مسلم، وهو بهذا المسلك النبيل يرتفع بنفسه عن المستوى الآثم، الذي يقع فيه عباد المال الذين يركضون جهدهم وراء المادة، متغافلين عما أوجب الله في هذا المال، من حقوق للضعفاء والمساكين، حتى أورثتهم ذلك قسوة في القلوب وضعفا، وغلظة في النفوس، ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بقوله: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعطى لم يرض»( ).
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56]. وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»( ).
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واحمي حوزة الدين.
اللهم انصر دينك وانصر من نصر دينك واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحبه وترضاه اللهم وأصلح قلوبهم وأعمالهم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولأولادنا ولأزواجنا. ولجميع المسلمين والمسلمات. والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم نور على أهل القبور من المسلمين والمسلمات قبورهم اللهم واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون )- [النحل/90-91].
فاذكروا الله الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.