بقلم: د. توفيق علي زبادي*
قرن سبحانه وتعالى بين التعظيم لأمره والشفقة على خلقه في مواضع من كتابه؛ وذلك لأن َهَذَينِ الأصْلينِ هُمَا جِمَاعُ الدِّينِ الْعَامِّ، فَالتَّعْظِيمُ لأمْرِ اللَّهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ بِالإحْسَانِ إلَيْهِمْ.
الملائكة معظمون لأمر الله مشفقون على خلق الله:
ومما حكى اللّه عن الملائكة قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (1)، وقال تعالى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (2).
قال الرازي– رحمه الله- اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين: التعظيم لأمر اللّه، والشفقة على خلق اللّه، ويجب أن يكون التعظيم لأمر اللّه مقدمًا على الشفقة على خلق اللّه فقوله: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) مشعر بالتعظيم لأمر اللّه، وقوله (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) مشعر بالشفقة على خلق اللّه (3).
الرسول الكريم معظم لأمر الله مشفق على خلق الله:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) (4) وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (5)، ثم إن اللّه تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم للّه بقوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) (6) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة (7).
الله يحث المؤمنين على تعظيم أمره والشفقة على خلقه:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ) (8).
قوله: (كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ) إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه، ومعنى القيام للَّه: هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه، وقوله: (شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ) إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه (9).
إذا أردت التيسير لكل خير فكن معظمًا لأمره، مشفقًا على خلقه:
قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (10).
فمن عظَّم أمر الله، وأشفق على خلق الله، يَسَّر الله له طريق أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
إذا أردت معية الله فكن معظمًا لأمره، مشفقًا على خلقه:
قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (11)، والمعية تكون بالرحمة والفضل والتربية.
قوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّقَواْ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وقوله- جل ذكره – (وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله تعالى (12).. قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق.
وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص. فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل (13)، إشارة إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (14).
الكافرون غير معظمين لأمر الله غير مشفقين على خلق الله:
قال تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (15).. قال الرازي رحمه الله: العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه، وذلك لأن الموجودات، إما الخالق وإما الخلق، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقرَّ بكونه موصوفًا بصفات الجلال والعظمة، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر اللّه، وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق اللّه، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر اللّه، وأفضل أبواب التعظيم لأمر اللّه الإقرار بكونه واحدًا، وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال؛ لأنه ضد الشفقة على خلق اللّه (16).
المستنبط من اقتران التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله:
1- أن أهل الإيمان مهما اختلفت أنواعهم وأجناسهم معظمون لأمر الله مشفقون على خلق الله، ألم تر إلى الملائكة والأنبياء والمؤمنين مشفقين على خلق الله، يدعونهم إلى طريق الله، ويدعون لهم بالمغفرة والوقاية من عذاب الجحيم.
2- أن أهل الكفر والنفاق عذاب على خلق الله بنصِّ كتاب الله، فيجب علينا ألا تنطلي علينا شعاراتهم (قتل المدنيين- واستخدام العنف ضد المدنيين)، فهم الذين يقتلون إخواننا في كلِّ مكان: في أفغانستان، وفي الصومال، وفي العراق، وفي ليبيا...
3- من استعدى العدو على أهل وطنه غير معظم لأمر الله، وغير مشفق على عباد الله، ألم تر إلى الحكام المستبدين الذين استعدوا على أبناء أوطانهم بجنودهم المدججين بالسلاح- كاليهود والصليبيين- ليقتلوهم.
3- أن من لم يعظم أمر الله، ولم يشفق على عباد الله ميسر للشقاوة في الدنيا والآخرة، ألا فليطمئن أهل الإيمان بتوفيق الله لهم وخذلانه لعدوهم.
4- أن توقير العلماء العاملين للدين واحترامهم من تعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله؛ لأنهم ورثة الأنبياء.
5- أن أولى الناس بالشفقة الوالدان ثم أهل بيتك من زوجة وأولاد ثم الأقرب فالأقرب، ألا فلتتقِ الله فيهم.
6- أن الانقطاع في المساجد للعبادة، دون السعي في حاجة المسلمين من تفريج كربة، وتيسر عسرة، وعون عبد على أخذه حقه من ظالم مستبد، يميت في النفس معاني الشفقة على خلق الله، ويحرم من كان هذا فهمه من التيسير لليسرى.
7- أن المؤمنين متعاضدون في تعظيمهم لأمر الله والشفقة على خلق الله، ولعل هذا هو السر في النداء بـ(يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ)، أي: كونوا متعاونين متعاضدين على تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ولعل هذا يفهم أيضًا من قوله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (17)، والبر جماع الخير.
اللهم اجعلنا معظمين لأمرك مشفقين على خلقك.
-------------------
* عضو هيئة التدريس بمعهد الإمام الشاطبي.
الحواشي:
1- غافر 7
2- الشورى 5
3- تفسير الرازي: 27/ 489.
4- الأحزاب: 28 -29 .
5- سنن ابن ماجه: كتاب الجنائز،( 1625). قال الشيخ الألباني: صحيح.
6- الأحزاب: 1.
7- تفسير الرازي: 25/ 165.
8- المائدة 8.
9- تفسير ابن عادل: 1/1719.
10- الليل 5-6.
11- النحل 128.
12- تفسير ابن عادل: 1/3272.
13- الخازن: 2/ 108.
14- النحل 128.
15- فصلت 6- 7.
16- تفسير الرازي: 27/542.
17- المائدة2