بقلم: د. توفيق علي زبادي*
قرن الله سبحانه بين التوبة والإصلاح في مواضع من كتابه منها: قوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)) (البقرة)، وقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89)) (آل عمران)، وقوله تعالى: (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (16)) (النساء)، وقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) (النساء)، وقوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39)) (المائدة)، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)) (الأنعام)، وقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (19)) (النحل)، وقوله تعالى: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)) (النور).
التَّوْبَةُ في الشرع
التوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرَّط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة (1).
والصَّلاحُ: ضدّ الفساد (2).. قال ابن منظور- رحمه الله-: "الإصلاح نقيض الإفساد وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه (3).
اصطلاحًا: مأخوذ من الصُّلح: وهو عقد يرفع النزاع، وهو بمعنى المصالحة، وهو المسالمة خلاف المخاصمة، وأصلُه من الصَّلاح، وهو ضد الفساد ومعناه دال على حُسْنِه الذاتي (4).
فالآيات تدل دلالةً واضحةً على أنه ليس المقصود بالتوبة ترك القبيح، بل يجب فعل الحسن وهو الإصلاح.
فمثلاً لو أفسد المرء على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة، ولو كتم عالم علمًا فيه هداية غيره ونفعه، فيجب عليه بيان ما كتمه.
ولو سرق سارق ما، فلا يكفي توقفه عن السرقة، بل لا بد أن يرد الحقوق إلى أصحابها، ويتصدق، ويؤدي حقوق الله وحقوق العباد فيما أنعم الله عليه من مال حلال.
ولو ظَلَم أحدًا فلا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه، بل لا بد أن يرد المظالم، ويظهر الإحسان إلى الناس.
ومن أجل ذلك شرط سبحانه وتعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى؛ ليضلوا الناس بذلك أن يصلحوا العمل في نفوسهم، ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)) (البقرة).
وشَرَطَ في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم إفساد قلوب ضعفاء المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم الإسلام رياءً وسمعةً:
- أن يصلحوا بدل إفسادهم.
- وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين.
- وأن يخلصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياءً وسمعةً، فهكذا تُفهم شرائط التوبة وحقيقتها(5).
ولفظ: (وَأَصْلَحُوا) أي عملوا صالحاتٍ كثيرةً؛ لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائمًا، فهم يريدون أن يصنعوا دائمًا أشياءَ لاحقةً تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها (6).
وتدل أيضًا: على أن مَنْ وقعتْ منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة، كما جاء الحديث، عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ أَيْنَمَا تَكُونُ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا" (7).
وقد قدَّر العلماء الإصلاح بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطباع (8).
والإصلاح المطلوب من التائب:1- أن يجعل نفسه صالحةً.
2- وأن يصلح عمله بعد أن أساء فيه.
قال ابن عاشور– رحمه الله- ومعنى (أَصْلَحَ) صيِّر نفسه صالحةً، أو أصلح عمله بعد أن أساء (9).
فالإفساد عمل شرير يمتد أثره على الخلق، فلا بد للتائب أن يُعوِّض ما أفسد بعمل إيجابيٍّ خيِّرٍ مصلحٍ.
فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك، فإذا هي كفَّت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد، فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء.. إن الذي يربّي بهذا المنهج هو اللّه.. الذي خلق والذي يعلم مَن خلق (10).
فإذا أراد المفسدون التوبة من إفسادهم الذي عمَّ كل شيء في الحياة، فلا يقبل منهم فقط أن يكفوا عن إفسادهم، بل لا بد أن يعوضوا بدل كل إفساد أفسدوه صلاحًا، وأن يثبتوا بالأعمال الصالحة لمدة لا تقل عن سنة- كما شرط ذلك العلماء- صدق توبتهم وتوجههم إلى الإصلاح هذه هي حقيقة التوبة.
وهذا ما أكده العلماء:قال القرطبي- رحمه الله-: "لا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول فإن كان مرتدًّا رجع إلى الإسلام مظهرًا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يُظهر عكس ما كان عليه" (11).
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله-: "شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يُصلِح وقدَّروا ذلك بسنة، كما فعل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بصبيغ بن عسل لما أجله سنةً وبذلك أخذ أحمد- رضي الله عنه- في توبة الداعي إلى البدعة أنه يُؤجَّل سنةً كما أجَّل عمر صبيغ بن عسل" (12).
فهل من عودة حميدة إلى المنهج القرآني نستقي منه إصلاحًا لأنفسنا ومجتمعنا؟
----------
- الهوامش:
(1) مفردات الراغب: 169.
(2) المرجع السابق: 489.
(3) لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت- لبنان ط:الأولى1300هـ، (ج2/516).
(4) موسوعة نضرة النعيم : إعداد مجموعة من المختصين بإشراف: صالح بن عبد بن حميد، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن مُلُّح، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، السعودية، ط: الثالثة، 1425هـ= 2004م (ج2/ 364).
(5) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: 17.
(6) الشعراوي: 1073.
(7) مسند أحمد بن حنبل، مسند معاذ بن جبل (22112)، قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 97 في صحيح الجامع .
(8) نظم الدرر: 5/ 237.
(9) التحرير والتنوير: 6/ 126 .
(10) في ظلال القرآن: 2/ 886 .
(11) تفسير القرطبي، (ج2/ 184).
(12) مجموع الفتاوى، (ج7/ 86).
-----------
* عضو هيئة التدريس بمعهد الإمام الشاطبي