بقلم : د. حمدي فتوح والي
نظرًا لشيوع أمور غير مشروعة وغياب أمور أخرى مشروعة في خطابة الناس اليوم قياسًا على خُطب النبي صلى الله عليه وسلم رأينا من الضروري أن نقدم بين يدي كتابنا هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته حتى يكون خطباء اليوم على بصيرةٍ شرعيةٍ بأمور الخطابة فلا يُزيدون عليها ما لم يأذن به الشرع ولا ينقصون منها ما ورد فعله عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وسنعتمد في هذا على ما رواه الإمام شمس الدين بن القيم في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ حيث يقول في مبحث: هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته:
"كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتدَّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم". ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى"، ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي" (رواه مسلم).
وفي لفظ كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته.
وفي لفظ يحمد الله يحمده بما هو أهله ثم يقول: "مَن يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله" ولفظ النسائي: "وفي كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
وكان يقول بعد التحميد والثناء والتشهد "أما بعد".
وكان يقصر الخطبة ويطيل الصلاة، ويكثر الذكر ويقصر الكلمات الجوامع، وكان يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته من فقهه".
وكان يُعلِّم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمرٌ أو نهي.
كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين، ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك وأمره بالجلوس، وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض أو سؤال لأحد من أصحابه فيجيبه ثم يعود إلى خطبته فيتمها.
وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ثم يعود فيتمها؛ كما نزل لأخذ الحسن والحسين وأخذهما ثم رقي بهما المنبر فأتمَّ خطبته.
وكان يدعو الرجل في خطبته تعال اجلس يا فلان صل يا فلان.
وكان يأمرهم بما يقتضي الحال في خطبته فإذا رأى منهم ذا حاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها، وكان يشير بإصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه.
وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس فإذا اجتمعوا خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سوار. فإذا دخل المسجد سلَّم عليهم فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ولم يدع مستقبل القبلة, ثم يجلس ويأخذ بلال في الأذان فإذا فرغ منه قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب عن غير فصل بين الأذان والخطبة ولا بإيراد خبر ولا غيره, ولم يكن يأخذ بيده شيئًا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوسٍ وعصا قبل أن يتخذ المنبر.
وكان في الحرب يعتمد على قوس وفي الجمعة يعتمد على عصا، ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيفٍ، ومن يظنه من بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائمًا، وأن ذلك إشارة أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره. ولا قبل اتخاذه, أنه أخذ بيده سيفًا البتة. إنما كان يعتمد على قوس أو عصا.
وكان منبره ثلاث درجات, وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه فلما تحوَّل إلى المنبر حنَّ الجذع حنينًا سمعه أهل المسجد فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه, وقال أنس حنَّ لما فقد ما كان يسمع من الوحي, وفقد التصاق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوضع المنبر في وسط المسجد وإنما و ضع في جانبه الغربي قريبًا من الحائط، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة.
وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة أو خطب قائمًا في الجمعة استدار أصحابه إليه بوجوههم، وكان وجهه قبلهم في وقت الخطبة.
وكان يقوم فيخطب ثم يجلس جلسةً خفيفةً ثم يقوم فيخطب الثانية فإذا فرغ منها أخذ بلال في الإقامة.
وكان يأمر الناس بالدنو منه ويأمرهم بالإنصات، ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا ويقول: "من لغا فلا جمعة له".
وكان يقول: "مَن تكلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة" رواه أحمد رحمه الله.
وكان إذا فرغ بلال من الأذان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة, ولم يكن الأذان إلا واحدًا، وهذا يدل على أن الجمعة والعيدين لا سنةَ لها قبلها, وهذا أصح قول العلماء وعليه تدل السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقي المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل. وهذا كان رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة؟!.
ومن ظنَّ أنهم كانوا إذا فرغ بلال من الأذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهذا أجهل الناس بالسنة.
هذا ما أثبته الإمام شمس الدين بن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة.
وقد ظهر لنا من خلال هذا العرض أمور نجملها فيما يلي :
1- كان صلى الله عليه وسلم يتخذ للخطبة منبرًا من ثلاث درجات.
2- كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه.
3- وكان هديه قصر الخطبة وطول الصلاة في الغالب، ولا يمنع ذلك من أنه يطيل الخطبة في بعض الأحيان، فقد ورد أنه خطب الناس بعد صلاة العصر، وهذا يعني أنها ليست خطبة جمعة. فلم يزل يخطب صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف. فقال: "ألا إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه" (رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي، وفيه علي بن زيد بن جدعان- ضعيف".