بقلم: د. مصطفى شلبي
سورة المؤمنون سورة مكية، والقرآن المكي هو ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, ومن سمات القرآن المكي هو بناء العقيدة الصحيحة السليمة, وهي الخطوة الأولى لتربية الإنسان الصحيح، الذى لو وُجد لوجدت معه أسباب النجاح جميعًا.
في المرحلة المكية التي بلغت ثلاثة عشر عامَا يتنزل القرآن المكي بسماته في تأصيل العقيدة الصحيحة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعد الجيل المنوط به المهمة الكبرى والعظيمة، وهي تبليغ دعوة الله للعالمين, فهذه الفئة التي تصنع على عين الله في مكة هم المنوط بهم تحرير البشرية في آسيا وأوروبا وإفريقيا وغيرها من بقاع أرض الله الممتدة شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ولكي ندرك عظم هذه التربية وأهميتها في بناء الإنسان الصالح نضرب نموذجًا واحدًا لأثر هذه التربية العظيمة؛ حيث نعلم جميعًا التكاليف الباهظة التي تتحمل عبئتها الشعوب اليوم؛ للقضاء على المخدرات والمسكرات تجارة وتعاطيًا، من إدارات لمكافحة المخدرات وميزانيات ضخمة لم تفلح في القضاء على هذا الوباء المدمر، وتعالوا نرى كيف قضى الإسلام على هذه الآفة المدمرة للشعوب، لما نزل النص الختامي لتحريم الخمر، وهو قول الله عز وجل في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)) (المائدة)، وكان هذا تحريمًا قاطعًا للخمر في الأوقات كلها، فقال الصحابة: انتهينا يا رب! انتهينا!، وأهرقوها في شوارع المدينة، حتى يُروى أن شوارع المدينة امتلأت بآنيات الخمر ملقاة بالشوارع من غير تشكيل لجان أمنية تفتش وتقبض على المخالف، ولا لجان قضائية تحقق وتحكم على المخالف، ولكن هي آية واحدة تنهي المشكلة؛ لأنهم تربوا على تقدير الله حق قدره الذي أنزل عليهم هذه الآية, حتى أنه ورد عن أحد الصحابة بلغته الآية وهو يشرب الخمر وفمه ممتلئ فماذا يفعل وقد بلغه أمر ربه؟ هل يبتلعها أم ماذا يفعل؟ يجيب التاريخ المسطر بحروف من نور أنه قد تفلها من فمه؛ لأنه تربَّى أن الرقيب عليه هو الله الذي يرى ما في حلقه.
وهذا درس لأهل مصر والشعوب العربية المحررة التي تمر بمرحلة تأسيس لمرحلة جديدة تبغي الفلاح وامتلاك أدوات الحضارة والتقدم, تبغي حل جميع المشاكل المتراكمة على كواهلها ميراثًا عن الأنظمة البائدة.
هذه رسالة ربانية لهذه الشعوب إن أردتم تحقيق ما تصبون إليه من فلاح, فعليكم بهذه الرسائل الربانية, البداية هي بناء الإنسان سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسم, قادر على الكسب, مجاهد لنفسه، حريص على وقته، منظم في شئونه، نافع لغيره.
وها نحن اليوم نعيش مع أحد هذه الرسائل الربانية من سورة المؤمنون، وتحديدًا الآيات الأحد عشر الأولى من السورة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)) (المؤمنون).
تعالوا أحبابي نعيش مع هذه الرسالة، نسأل الله أن يجعلها جلسة تدبر في كتابه؛ لنرى مدى احتياجنا نحن شعب مصر في مرحلتنا الراهنة لهذه الرسالة.
الآية الأولى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)) جاءت بوسائل توكيد متعددة: قد، وأفلح فعل ماض، فقد فازوا وسعدوا ونجحوا في الدنيا قبل الآخرة, فهذه الآيات نزلت والمؤمنون مستضعفون في مكة مضطهدون مطاردون، فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه, ونحن قد رأينا كيف فلحوا ففتح الله عليهم الدنيا شرقًا حتى شرق آسيا، وغربًا حتى المغرب والأندلس، وشمالاً حتى قلب فرنسا، وجنوبًا حتى مجاهل إفريقيا، فنشروا العدل في ربوع الأرض بعد أن تحولوا بهذه التربية من رعاة للغنم إلى قادة للأمم, امتلكوا هم وأسلافهم أدوات الرقى والعلم والحضارة، فبنت أوروبا حضارتها على علمهم وعطائهم.
ثم يبدأ الله عز وجل في ذكر صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين.
الصفة الأولى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
الصفة الأولى داخل المسجد "الخشوع في الصلاة" عامل عظيم في بناء الإنسان الصالح الذي يعمر الأرض بصلاحه.
في أمور الدنيا ماذا يكون حالك وأنت تقف في حضرة مسئول كمحافظ أو وزير؟ مما لا شك فيه أن الواحد منا يكون بكل مشاعره وأحاسيسه وانتباهه، يكون معه، يتلمس حركاته، ويستمع كلماته، ويلاحظ إشاراته هذا مع المخلوق، فكيف يكون حالنا ونحن في حضرة الخالق!!!.
الخشوع في الصلاة يعين الفرد على تأمل كل ما في الصلاة من معانٍ راقية فهو يفتتحها بالتكبير، فيتربى على أن الله هو الأكبر من كل مخلوق تشريعه هو الأصلح والأعظم, هو العظيم هو الأعلى, يستمع للآيات القرآنية التي يتلوها الإمام فيتعلم أن الرازق هو الله، وأن المعز هو الله، وأن المذل هو الله، وأن المعطى هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المحي هو الله، وأن المميت هو الله، وأن الخافض هو الله، وأن الرافع هو الله, خمس مرات يأخذ هذه الشحنة فيخرج من المسجد ذاكرًا لله لا يغش ولا يكذب ولا يظلم ولا يختلس ولا يسرق, يتقن عمله ويؤدي واجبه: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)) (الجمعة).
وهكذا يكون الخشوع في الصلاة؛ لإعمار الأرض وصلاح الإنسان.
الصفة الثانية: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْو مُعْرِضُونَ)
هذه خارج المسجد، فالإسلام داخل المسجد وخارجه، واللغو وهو كل كلام وفعل لا جدوى منه، أو كما قال صاحب الظلال: لغو القول ولغو الفعل ولغو الاهتمام والشعور.
ما أكثر ما يصادفنا من أقوال وأفعال لا فائدة ترجى من ورائها.. خُلق ما أحوج شباب مصر؛ بل رجالها ونساءها وفتيانها وفتياتها إلى التخلق به في هذه الأيام.
يا شباب مصر، ما أكثر ما نراه ونقرأه من لغو على صفحات (الفيس بوك) ومواقع الإنترنت فلنعرض عن هذا اللغو, ما أكثر ما نشاهده من لغو في برامج "التوك شو" على الفضائيات, برامج ليست عديمة الفائدة وفقط؛ بل تمارس دورًا خطيرًا في تفكيك الأمة المصرية، وإحداث الوقيعة والفتنة بين أبنائه وتفتيت نسيجها الوطني, فلنتخلق بخلق القرآن، ولنغلق هذه البرامج والقنوات، ولنتحول إلى ما يفيد في بناء الوطن ونشر القيم الحضارية والإيجابية بين أبنائه.
الصفة الثالثة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)
أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال، مزكين لأنفسهم فأحسنوا في عبادة الخالق بالخشوع في الصلاة، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة..
هل يحتاج شعب مصر وهو يمر بهذه المرحلة الخطيرة للالتزام بهذه الفريضة؟
من لفقرائنا؟ من للعاطلين؟ من لليتامى والأرامل والمساكين؟ كيف يحل كمُّ المشاكل الموروثة عن النظام البائد؟ وكيف تقوم مصر بدورها الفاعل كدولة كبرى في مساعدة الأشقاء العرب والمسلمين في الصومال وفلسطين؟ إنها فريضة الزكاة التي يتميز بها منهجنا الإسلامي عن سائر المناهج.
يقول العلماء إنه لو أخرجت الزكاة بصورة صحيحة ما وجد فقير بين المسلمين, إذًا، فوجود فقراء ومحتاجين دليل على صورة خاطئة لتطبيق الفريضة.
كما يقول العلماء إن الزكاة تأكل المال، بمعنى لو أن حق الله في مالك عشرة آلاف جنيه مثلاً وأخرجت ستة آلاف وبخلت بالأربعة, فالأربعة تأكل مالك كيف؟ لعلك تبتلى بمرض تنفق أضعاف المبلغ على العلاج, قد تصاب زوجتك أو ولدك، قد تصدم سيارتك فتنفق عليها أضعاف أضعاف هذا المبلغ.
أما التقوى في إخراج الزكاة وتوصيلها كأمانة عندك للمسارات المحددة من الله عز وجل فإن ذلك بمثابة طهارة وتنمية لمالك: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)) (التوبة).
ولننظر لهذا الإعجاز القرآني؛ حيث يقول الله عز وجل: (فاعلون)، ولم يقل (مؤدون)؛ ففاعلون معناها أن المسلم العارف بفضل الزكاة والصدقة والمتعلق قلبه بثوابها يسعى لأن يكثر من الزكاة والصدقة, وطريقه لذلك زيادة السعى وتنمية ماله، فلو كان مالكًا لورشة صغيرة يخطط ويسعى؛ لأن تكون مصنعًا، ولو كان مالكًا لفدان يسعى ويجد ليكون فدانين, ولو كان إنتاج الفدان ستة عشر إردبًّا من القمح يسعى ليكون الإنتاج ثمانية عشر إردبًّا وهكذا.. ففاعلون تعني تنمية بشرية وتنمية اقتصادية وقضاء على البطالة والفقر، وتحقيق معدلات نمو غير مسبوقة، وتقليص لعجز الموازنة.. فما أحوجنا في هذه المرحلة لهذه الفريضة الربانية.
الصفة الرابعة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7))
وهكذا بعد أن طهَّر المسلم نفسه بالخشوع في الصلاة، وطهر ماله بالزكاة والصدقة، وها هو يطهر نفسه ومجتمعه من الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وإباحة الزواج والتمتع بما ملكت اليمين دليل على واقعية الإسلام، وأنه دين لا يصطدم بالفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها، ودليل على أنه منهج الخالق سبحانه وتعالى للمخلوق.
فأباح الله الزواج وفق منهجهه فينشئ أسرة على أساس من المودة والرحمة، فيتحقق السكن للزوج والزوجة، ويطهر المجتمع وتبنى الأسرة التي هي لبنة المجتمع الأولى على أساس طاهر رباني فتفرز مجتمعًا طاهرًا.
ولقد جاء الإسلام والرق نظام عالمي، فسعى الإسلام للقضاء عليه، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، فكما ولد حرًّا لا بد وأن يعيش ويموت حرًّا, فالحرية فريضة من فرائض الإسلام، ومن الوسائل المشروعة للقضاء على الرق هو (أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فلو استمتع بها فولدت له ولدًا، أصبحت حرة، وكفارة الأيمان عتق الرقاب، ولو لطمها على وجهها فكفارة ذلك عتقها، فما أعظمه من منهج، وما أحوج البشرية إليه اليوم!!.
(فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7))، فالزنا واللواط والسحاق والاغتصاب والزواج العرفي وغيرها من الفواحش التي لوثت حياة البشرية محرمة من الله حتى يصبح المجتمع طاهرًا.
ومنهج الإسلام في علاج هذه الفواحش لا يقتصر على العلاج ولكن أساس القضاء على هذه الفواحش هو الوقاية قبل العلاج بتحريم ما يؤدي إلى هذه الفواحش، فوضع حدودًا للاختلاط والنظرة بين الجنسين، يقول تعالى في كتابه الكريم: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور).
ويقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)) (النور).
فيا شباب مصر هلاَّ تخلقنا بهذا الخلق القرآني، فلنحذر مواقع النت والمشاهد المحرمة في الفضائيات فإنها طريق الهلاك، ويا إعلاميِّي مصر وفنانيها لتكونوا على مستوى المسئولية في هذه المرحلة الراهنة، ولتكونوا ناشرين للفضيلة مغاليق للفاحشة والرذيلة.
الصفة الخامسة: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)
أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدون الأمانة إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك, فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية 58).
فأداء الأمانة التي استأمننا الله عليها هي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)) (الأعراف)، فعبوديتنا لله وخضوعنا له وامتثالنا لأوامره وانتهائنا عن نواهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، أمانة واجب الوفاء بها على كل مؤمن.
دينك أمانة واجب عليك نصرته, صحتك أمانة، وقتك أمانة، زوجتك أمانة، أولادك أمانة، مالك أمانة، حقوق جيرانك أمانة، حقوق رحمك أمانة، عملك وإتقانك له أمانة، مصر أمانة في رقاب الجميع، ومن صفات المؤمنين أنهم مؤدون لكل هذه الأمانات خير أداء.
وما حدث لمصر من النظام الفاسد وأعوانه إلا أنهم ضيعوا الأمانة على كل المستويات الفردية والجماعية.
الصفة السادسة: (والذين هم على صلواتهم يحافظون)
بدأت الصفات بالمسجد وختمت في المسجد، مما يدلل على خطورة وأهمية دور المسجد في بناء الأمة والمجتمع، والدور المنوط بالأزهر والجهة التي تخول بالمسؤلية عن المساجد.
ولعلي أذكر سر ما ورد في سورة البقرة قول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)) (البقرة).
هاتان آيتان في الصلاة أنزلهما الله خلال آيات الزواج والإيلاء والطلاق والخلع والأولاد والاسترضاع.. ومما يستفاد من نزولها خلال خضم هذه الأحداث:
أولاً: ألا ينسى المرء المحافظة على الصلاة خلال الأحداث التي تمر معه في حياته مع الزوجة والأولاد، فلا تنسيه مشاكله عماد دينه، الصلاة لله الواحد الأحد فهي ركن للإسلام عظيم.
وثانيًا: إنَّ الاهتمام بالصلاة والفزوع إليها أمر مهم في الإسلام، وبخاصة عندما تتعاظم المشاكل والأحداث، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الصلاة كلما أهمه أمر؛ فضلاً عن أن الصلاة تقرب الإنسان من ربه وتقوي دافع التقوى عنده، فيتقي الله ربه عند تعامله مع الزوجة والأولاد فيضفي على المعاملات تحريًّا للحق ووقوفًا عنده في النكاح والطلاق والأولاد، فيبتعد عن الظلم والإضرار بالآخرين.
وأخيرًا يقول الله عز وجل: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)).
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: (أولئك هم الوارثون)".
والميراث يرثه الإنسان عن أبويه دون كد أو تعب، وهذا معنى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا إِيَّايَ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا".
وهكذا تتحقق السعادة للإنسان الذى يعيش في كنف منهج الله في الدنيا قبل الآخرة.
ما أحوج شعب مصر رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخًا، في هذه المرحلة الراهنة لهذه الصفات الخمس للمؤمنين، يتربون عليها ويتخلقون بها، ففيها النجاة وتحقيق ما نرجوه من فلاح لمصرنا الحبيبة.