بقلم: الشيخ فؤاد الهجرسي
العبادة هي العهد القديم بين العبد وربه، ومن حيث إنها الأساس في بعث الرسل وإنزال الكتب، ومن حيث إنها الأمر الإلهي الذي لا يصح الخروج عليه بحال.
أما إنها العهد بين العباد وخالقهم فهذا عهد قديم سبق في الأزل، فما من واحد من بني آدم إلا أعطى على نفسه عهدًا أن يعبد الله تعالى مخلصًا له الدين مذ كان ذرًّا في الأصلاب ما يزال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)) (الأعراف).
ويوم القيامة يوجه الله تعالى اللوم للذين انحرفوا عن صحيح العبادة يقول: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)) (يس).
ومن الأهوال التي يراها الناس يوم القيامة، وتكون عواقبها الوخيمة على المنحرفين عن صحيح العبادة ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)) (يس: من الآية 59)، فيتميز الناس ويجثون على ركبهم- وهي التي يقول الله فيها: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28)) (الجاثية)".
أقول فكيف المهرب من هذا العهد؟ أو كيف الغفلة عنه؟.
وأما أن العبادة هي الأساس الذي من أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب، فقد قال الله تعالى: (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (الأنبياء).
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (الزخرف).
هذا وقد أوضحت رسالة الإسلام الخاتمة والخالدة، العلة في خلق الخلائق، فمنها ما هو مفطور على العبادة كالملائكة، ومنها من هو مكلف لطبيعة تكوين فيه، كالجن والإنس: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)) (الذاريات).
ثم إن أداء العبادة خالصة لوجه الله تعالى يؤدي عنا واجب الشكر لصاحب النعم سبحانه وتعالى، فهو الذي سخر ما في الوجود للإنسان، والآيات الدالة على ذلك كثيرة في الكتاب الكريم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: من الآية 20)، ولئن عزَّ على الإنسان الاطلاع على نعم الله عليه من خلال النظر فيما حوله، فلينظر إلى نفسه: "إلى نعمة السمع أو البصر أو الشم أو بقية الحواس، ثم نعمة الهضم، ثم الحركة وكثير كثير، حتى الموت والدفن والقبر في طيات الثرى بخلاف جميع المخلوقات قال تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)) (الذاريات).
إذن.. تنزلت الكتب من لدن ربنا، وبعث الرسل للتعريف بالعبادة التي هي من أجل أغراضها شكر المنعم على نعمه.. ولا بد من أن نطيل النظر في الكون وفي النفس؛ حتى ترضخ ويعمر القلب بأنوار الإيمان.
وأما أن العبادة أمر إلهي واجب التنفيذ فاستمع إلى قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) (الحجر).
قال المفسرون: اليقين: الموت.
ومعنى هذا أن المسلم مكلف بما كلف به صلى الله عليه وسلم: أن يعبد الله من بدء حياته إلى نهايتها وإلى أن يأخذه الموت.
ونلحظ أن الصلاة، وهي عماد الدين، لا تسقط عن العبد أبدًا، جاء في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب".
والأمر واضح كذلك في كثير من النصوص مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (البقرة).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) (الحج).
فالعبادة على هذا أمر وتكليف ننفذها طاعة لله تعالى وخضوعًا وحبًا.
وبعد.. فالعبادة لله عهد قديم أخذه علينا ربنا أزلاً وأقررنا على أنفسنا بذلك، وهي السبب الأساسي في بعث الرسل وإنزال الكتب؛ لتكون على ذكر من عهدنا؛ وهي أمر صادر من الله تعالى، لا يجوز لنا أن نحيد عنه؛ لهذا نكون ملزمين بأدائها حقًّا علينا وها نحن في بيت الله تعالى لأداء صلاة وهي بعض هذه العبادات.
وأقول: لكن البعض منا ما زال يفرق بين ما يؤدَّى في المسجد وبين ما يؤدَّى في واقع الحياة من أخذ وعطاء وصلاة ومعاملات بين الناس، والبعض الذي يدرك شمول الإسلام لكل وقائع الحياة يفتقر إلى تسديد نية لنوال الثواب.
فلنحذر ذلك الفهم الخاطئ أو ذلك القصور البين، ولنستعن بالله تعالى على حسن القصد وخلوص الطوية؛ حتى نفوز بالحسنى وزيادة بالجنة، ورؤية وجه ربنا الكريم سبحانه وتعالى.
وإليكم أسوق هذا الحديث الشريف؛ ليتبين لنا أن العبادة تشمل ما يكون في المسجد وجميع مواقع العمل في جوانب الحياة، وإخلاص النية قبل.
روى البيهقي، واللفظ له، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: "الإيمان بالله" قلت: يا نبي الله ومع الإيمان عمل؟ قال: "أن ترضخ مما خولك الله"، قلت" يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال: "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر" قلت: فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: "فليعن الأخرق الذي لا يعرف صنعة"، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان لا يحسن صنعة؟ قال: "فليعن مظلومًا" قلت: أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعن مظلومًا؟ قال: "ما تريد أن تترك لصاحبك خصلة من خير؟!! ليمسك أذاه عن الناس". قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: "ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة".
تحياتى لكم،،،،،،،