بقلم: نبيل جلهوم
إذا لامس القلب معرفة الله تحوَّل من حالٍ إلى حال آخر أسعد وأعظم.. فمعرفة الله إذا استحكمت في القلب استحكامًا دقيقًا قذفت فيه نورًا يشع على صاحبه، وهداية تدفعه لكل خير، وإحساسًا يجعله يشعر بمن هم في حاجة وكرب، وهمًّا يجعله يشعر بهموم الآخرين من حوله؛ بل يتعدى ذلك إلى أن هذه المعرفة الحقة تصل به إلى أن يكون عبدًا ربانيًّا يتكلم بكلام الله، وينطق برحمات الله، ويسعى إلى رحمة عباد الله.. فيلين الجانب، ويساعد المحتاج، ويطبب العليل، ويصنع الخير، ويغلق الشر، ويتحول إلى منارة وشامة وعلامة في دنيا أصابها الزمان بعطب نفوس الناس، فصارت قاسيةً لا تتأثر ولا تتحرك حتى في مجرد محاولة تغيير النفس والأخذ بأيدي الآخرين.
لقد كان رمضان جامعة إيمانية كبيرة على أثرها وفي فصولها وعلى دربها يجب الوعد والعهد ممن دخلها أن ينظر ماذا سيكون بعد رمضان.. ويطيل الفكر فيما إذا كان قد قَبل الله منه رمضان وأعتق رقبته وغفر ذنبه وكتب له الرحمة أم ماذا كان عند ربنا الديَّان؟
أولاً: عهد على دوام المحاسبة:
إذا أراد المسلم أن يحيا حياة الصالحين الربانيين، فعليه دائمًا محاسبة نفسه حسابًا شديدًا، فهي دواء من كل داء، والشفاء من كل سقم وبلاء، وهي المطهرة للبدن، والرافعة للشأن والقدر، عند كل البشر بل عند مليك مقتدر.
فلقد ترَكَنا رمضان ورحل، وأصبحنا لا ندري أقَبِلَه الله منا أم لا؟ أأعتق رقابنا أم لا؟ أغفر لنا وحمنا أم لا؟
إن رمضان رحل عنا، وكان من غايته الأولى أن تتحقق في العباد التقوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)، فهل تحققت التقوى؟ التي عرَّفها الإمام التقي النقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما سُئل عن التقوى: ما التقوى يا إمام؟ فقال: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل...".
هذه هي التقوى التي تحتاج إلى أن نقف مع أنفسنا ونراجعها، هل تحققت فيها هذه الأمور العظيمة؟
والله الذي لا إله سواه، إن كانت قد تحققت فلن نؤمِّل في ربنا إلا رضوانًا ورحمة وعتقًا وغفرانًا.
وإن لم تكن قد تحققت فالبدار البدار، والعجلة العجلة، والسعي السعي لتحقيقها والاستغفار والتوبة.
فالتقوى وسام، وقد كانت شعار رمضان وهي مفتاح الجنان.. فهل درَّبنا نفوسنا على تغييرها، والصبر على الطاعات، والبعد عن المعاصي والمنكرات ابتغاء رب العزة والسماوات؟
هل نظرنا إلى المستضعفين فرحمناهم بمالنا وعوننا أم بَخَلنا وكنزنا؟ هل طببنا المرضى وداويناهم على الأقل بعذب أخلاقنا وجمال معاملتنا؟ هل شعرنا بالجوع والعطش فاستشعرنا ما يلاقيه غيرنا في بلدان الدنيا من الجوع والعطش والفقر في كل لحظة؟
هل كَفَلْنا مريضًا في علاج، وواسينا مهمومًا في كرب؟ هل طهرنا قلوبنا من الحقد والحسد والبغضاء؟
هل رغبنا بعد رمضان أن نرفع شعار: غايتنا الرحمن، وقدوتنا العدنان، وشرعتنا القرآن، وبُغيتنا الجنان؟.. إنها محاسبة تحتاج إلى صدق في الجواب، وعزيمة على إرضاء التواب، ورغبة في دخول الجنة من أوسع الأبواب.
ثانيًا: دوام العبادة والاستقامة حتى حضور اليقين:
فالرب في رمضان هو الرب فيما بعد رمضان، فإذا كانت السُبُل كلها تبذل في رمضان لإرضاء الله بقراءة القرآن، ومساعدة المحتاجين، ومداواة المرضى، وتسهيل حاجات المحتاجين، والهمّة العالية في كل أمور الدين.. فإن الأمر يستوجب الاستمرار على ذلك بعد رمضان، فتستقيم النفس وتسمو الروح (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) (هود: 112)، وقال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" (رواه مسلم).
فلئن كان في رمضان الإكثار من قراءة القرآن، فالجميل أن تستمر على سائر الشهور والأيام، ولئن كان الخشوع في الصلاة والإسراع إليها على وقتها في رمضان، فإن ذلك أوجب على الدوام، ولئن كان العون والمساعدة للمرضى والمحتاجين في رمضان، فإنهم أيضًا- هم أنفسهم- المحتاجون بعد رمضان، وعلى سائر الشهور والأعوام، فليستمر لهم العطاء، وليكن بعد رمضان معهم كل الوفاء، ولئن كان البعد عن المحرمات في رمضان سمتا عاما للصائمين، فإن الأمر لا يختلف عنه بعد رمضان، بل إن الأصل هو البعد عنها في كل زمان وأيًّا كان المكان.
ولئن كان دعاؤك والحاحك على الله في رمضان لا يتوقف، فإن الإلحاح بعد رمضان مطلوب لعل الله يجبر الكسر، ويرفع الهم، ويعتق الرقبة، ويفك الحصر، ويحرر الأقصى.
ثالثًا: اجعل شعارك.. لن أنقض غزلي بعد رمضان..
اسأل ربك ثباتًا بعد رمضان على ما كنت عليه وادعوه بقوةٍ ومن قلبك: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
اجعله شعارك ومنهاجك في الثبات وعدم التبديل بعد رمضان، فلا تهدم نفسك التي ربيتها في رمضان على الحب لتحوّلها بعده إلى البغض، لا تتوقف عن الدعاء والصلاة في المسجد والتسبيح والنوافل ولا تهجر قرآنك، فحَمَلَة القرآن هم الذين تصدوا لليهود في حرب الفرقان في غزة العزة.
لا تستبدل سماع الأغاني بقراءتك له، ولا تستبدل عقوقك للوالدين ولو بكلمة "أُف" بإحسانك لهما، ولا تستبدل اليأس والقنوط بصبرك وتحملك ونَفَسَك الطويل- الذي ربَّاك عليه رمضان-، ولا تستبدل النفور والبُعد بعد رمضان بحنانك ورأفتك بالمحتاجين والمرضى في رمضان، ولا تستبدل الغلٍّ والحقد والحسد ومحاربة الناس بعد رمضان بصفاء القلب من الحقد والحسد الذي تربيت عليه في رمضان، ولا تستبدل سوء الأخلاق وطول اللسان بلين الجانب وحسن الخلق الذي سموت به في رمضان، ولا تستبدل القسوة والغلظة وسوء العشرة بحبك لزوجك وأبنائك ورحمتك بهم في رمضان.
رابعًا: احرص على أن تكون حيًّا بعد رمضان:
اعلم وتذكَّر دائمَا أن مَثَل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر كمثل الحي والميت، فالذكر يزيل الوحشة بين العبد وربه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد، يتعاطفن حول العرش لهن دويٌّ كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له مما يذكر به؟".
والجميل في كثرة الذكر، أن الإكثار منه والدوام عليه ينوب عن التطوعات الكثيرة التي تستغرق الجهد والوقت.
وفيها عوض لمَن لا يستطيع أن يفعل الطاعات بدليل ما جاء في الحديث الصحيح: "إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون.
قال: "ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير مَن أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة".
كما أن الذكر يعطي قوةً في القلب وقوةً في البدن، ومن أجمل الأمور في الذكر والإكثار منه هو أن شواهد الله في أرضه تشهد له، فالذي يذكر الله في قمة الجبل أو في الطريق أو في السيارة أو في البيت أو على الكرسي أو على الأرض قائمًا كان أو قاعدًا أو مضطجعًا على جنبه.. كل هذه البقاع والأماكن تشهد له عند الله.
جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)) (الزلزلة). قال: "أتدرون ما أخبارها؟" قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عملت عليَّ كذا يوم كذا وكذا".
وجديرٌ بالذكر أن ننبه هنا أن ذكر الله ليس مجرد أقوال تقال باللسان وفقط، وإنما هي تفاعلات وأحاسيس وإيقاظ للنفس لتتحرك من حالها الذي هي عليه إلى حال أجمل ما يكون من الروحانية والشفافية والربانية والفراسة والإيمان، بل إن الأمرَ قد يصل بالذاكرين الله كثيرًا إلى مرحلة الكرامات من الرب العظيم يعطيها لهم كرمًا وفضلاً منه وتفضلاً.
خامسًا: الزم التقوى:
أسلك كل السبل والوسائل لتنمية وتقوية التقوى في نفسك وأعمالك وذاتك.. فهي دعوة الله للأنبياء جميعًا.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أضحى وأمسى ضاحكًا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد قُبضت أرواحهما ليلة العرس
سادسًا: بادر بالتوبة:
سارع دائمًا إلى طلب المغفرة من الله والتوبة النصوح، واللحاق بركب أصحاب الجنة والمعالي.
ويكفيك نبيك وقدوتك في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يستغفر ويتوب إلى ربه وخالقه سبعين أو مائة مرة في يومه.. وهو من هو؟؟ هو النبي لا كذب هو ابن عبد المطلب.. هو من غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر.. (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) (آل عمران)، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم رمضان ويجعله شاهدًا لنا لا علينا، وصلى اللهم على محمد معلِّم الناس الخير.
تحياتى لكم،،،،،،،،،،،