أصول تربية فلسفية
اَمن الفلاسفة الإغريق عموما ، بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير
على نسق واحد ، يمكن إدراكها بالبحث العقلاني ، تتكشف لذوي العقول النيرة
،وبأن هذه القوانين الأبدية الخالدة هي معيار صلاحية او فساد اي فعل
إنساني، ومنها القوانين الوضعية والأحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية .
ويعد
سقراط أول من حول إيجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الأفعال او شريتها عندما
حاول رد الأحكام الإنسانية إلى مبادئ عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان
، مستمدة من الطبيعة ويمكن الوصول إليها اهتداءاًَ بالعقل ، وبحسب وجهة
نظر سقراط فان القوانين العادلة إنما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة ،
فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الآله على
قلوب البشر ، طاعتها واجبة لأنها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة .
ومن تحليل فكرة القانون الطبيعي التي نمت وتطورت عبر تاريخ طويل يتضح إنها تقوم على مجموعة أسس هي على العموم:ـ
أولا: الاعتقاد بان عالم القانون كعالم الطبيعة .
وإذ تهيمن على الاخير قوانين طبيعية فكذلك يهيمن على سلوك الأفراد قانون
طبيعي كامن في طبيعة الروابط الاجتماعية ،وهو قانون ثابت لا يتغير لا في
الزمان ولا في المكان يكشفه العقل ولا يوجده.
وما على العقل البشري إلا
ان يتمعن في الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون الطبيعي ويصوغ
قانونـه الوضــعــي على مثاله ،وكلما قرب القانون الوضعي من القانون
الطبيعي كان اقرب الى الكمال .
وكان ارسطو الذي اكتملت على يده نظرية
القانون الطبيعي ، هو الذي عرض للمرة الاولى في تاريخ الفكر الإنساني تقسيم
القانون الى قانون عام طبيعي وقانون خاص مدني، حيث يقول ( القانون خاص من
جانب وعام من جانبه الآخر، والقانون الخاص هو ما تضعه الشعوب المختلفة
لنفسها وهو غير مكتوب حيناً ومكتوب حيناً أخر، أما القانون العام فهو قانون
الطبيعة وهو ما يعتقد الناس جميعاً ببديهيتهم الطبيعية ان يكون معيار
التفرقة بين الصواب والخطأ حتى لو لم يضمهم أي مجتمع او اتفاق).
ثانياً: الإيمان بان من سمات القانون ان يكون موضوعيا.
وهو
يكون كذلك حينماً يحكم الناس على وجه سواء ، دون النظر إلى أرائهم الخاصة
ومصالحهم الذاتية ، فالطبيعة وحدها هي التي تنأى بالقانون عن القسوة والضيق
والنقص والتغيير وعن هوى الفرد وتحكم المشرع ، فالقانون هو العقل المجرد
من العاطفة ، او هو القائد الذي ينبغي الاهتداء بحكمه، على حد تعبير ارسطو.
ثالثاً: الاعتقاد بأن إقامة النظام في المجتمع أهم من ملائمة القانون.
فالقانون
الطبيعي يقتضي من الأفراد طاعة القانون الوضعي ولو كان مخالفاُ لبعض
مقتضيات القانون الطبيعي، وبهذا المعنى يقول ارسطو ( ان الخضوع للقوانين هو
الأمر الاول الواجب الإتباع، أما الأمر الثاني فهو القيمة الذاتية لهذه
القوانين التي نخضع لها، لأنه من الممكن ان تكون قوانين سيئة).
ويضيف
ارسطو ( انه من الواجب ان نغلق أعيننا على مساوي المشرعين والحكومة، فان
الشر الأكبر هو انتزاع القوة من القوانين واعتياد الشعب على مخالفتها)
ويستثنى من ذلك الحالات التي يكون فيها القانون تجسيداً للظلم والاستبداد
بشكل واضح لا يقبل الشك.
ولذلك يحث ارسطو المشرعين على ان يستوحوا أحكامهم من مبادئ العدل وعلى أساس العقل وحده فهو المعيار الصحيح للعدل والأخلاق.
رابعاً: التمييز بين المصادر الموضوعية والمصادر الشكلية للقانون.
فالمصادر الموضوعية تحدد مضمون القانون وما ينطوي عليه، وهي التي تضفي
عليه قوة إلزامية من الناحية المعنوية، وهذه المصادر تقوم في طبيعة الأشياء
وتصدر عن الطبيعة الإنسانية.
اما المصادر الشكلية فتتألف من مجموعة
الوسائل التي تحول القاعدة القانونية بطبيعتها الى قاعدة وضعية، وذلك
بالكشف عن القاعدة القانونية ، لا بأنشائها، والتعبير عنها باستخدام أدوات
الفن التشريعي، ومن هذه الوسائل الكاشفة، التشريع والعرف وأحكام القضاء
وفقاً لقواعد العدالة.
خامساً: التمييز بين العدل الوضعي والعدل الطبيعي أي الإنصاف.
فالعدل الطبيعي معيار لتطبيق القانون ولإدخال المرونة عليه والملائمة بينه وبين الواقع.
ويترتب على الأسس المتقدمة للقانون الطبيعي نتيجتان منطقيتان، كما يأتي:
اولاً: ان القانون الطبيعي هو معيار القانونية بالسبة للقانون الوضعي:
ان
الغاية من تطبيق القانون هو تحقيق العدل ،ولما كان القانون الوضعي الذي
يحيد عن هذه الغاية قانوناً ظالماً، ومن ثم لا يعد قانوناً بالمعنى الصحيح،
ولهذا فان القانون الطبيعي هو معيار القانونية بالنسبة للقانون الوضعي
بحيث يمنحه او يمنعه الصحة.
ثانياً: ان القانون الطبيعي هو معيار العدالة بالنسبة للقانون الوضعي:
ان
مقتضى العدل هو تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس المساواة بين البشر،
لا يحابي أحدا ولا يظلم أحدا ويعطي كل ذي حق حقه.وبفضل موضوعية القانون
الطبيعي المتخذ كنموذج لا يجوز ان ينسب اليه ميل او ظلم ، ولهذا كان
القانون الطبيعي معيار للعدالة الذي يمكن في ضوئه التعرف عل عدالة القانون
الوضعي او عدم عدالته، فيخلع عليه فوق الإلزامية القانونية إلزامية ادبية
او يحرمه منها.
وفي عبارة مهمة يقول ارسطو ( … وتعد عادلة الأفعال المؤدية إلى سعادة الجماعة وحفظ مقوماتها).
وعرف
الرومان فكرة القانون الطبيعي عن الاغريق ويرجع الفضل في ذلك الى خطيب
روما الشهير شيشرون وهو القائل (…. وفي الحقيقة اننا نستطيع التعرف على
الفارق بين القانون الجيد والقانون الرديء بالاحتكام إلى الطبيعة كمعيار)
ان
فكرة القانون الطبيعي تتجسد في ان على العقل البشري ان يتمعن في نظام
الكون ومنطق الأشياء وطبيعة الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون
الطبيعي ويصوغ قانونه الوضعي على مثاله ، ومثل هذا القانون يكون موضوعيا.
وينبغي
على القاضي حين يجد نقصاً او قصوراً في التشريع ان يستلهم حكمه من هذه
القاعدة الأبدية التي تحكم الكون وتضفي بظلالها على الطبيعة الإنسانية
الصافية.
وهكذا كما توازن قوانين الكون بين الأشياء الضارة والنافعة،
والاشياء الوحشية والأليفة، والقحط والوفرة ، توازن العدالة الكونية بين
العقوبة والرحمة ، وعلى البشر ان يحذو حذو الطبيعة .
الا ان أنصار
الوضعية القانونية الحديثة هاجموا فكرة القانون الطبيعي ونجحوا في إضعافها
فترة معينة هجرها في اثنائها اشد أنصارها تحمسا لها .
فقد اعترض عليها
بانها نظرية مثالية تؤدي الى الحكم على قانونية القاعدة القانونية طبقا
لمعيار غير قانوني ، هو الضمير الفردي لكل قاضي مما يؤدي الى اختلاف
الأحكام باختلاف القضاة .
وقيل بأن الاعتقاد ان للطبيعة نظام اجتماعي
عادل هو على غرار الفكرة البدائية في الاعتقاد بالأرواح ، حينما كان
الانسان البدائي يعتقد ان للأنهار والنجوم والحجارة والنباتات أرواحا
استقرت فيها او خلفها ، قادرة على حمايته وقادرة على إيذائه ، وعلى ذات
النسق اعتقد ان الطبيعة تقوم بوظائف تشريعية فتكون هي المشرع الأعلى.
إلا
ان الفقيه جيني ، جاء بعد ذلك لينشر من جديد فكرة القانون الطبيعي
التقليدية في أشهر نظرية وضعها حول تفسير القانون الخاص واصفا القانون
الطبيعي بانه القانون الذي لا يقهر . ورأى في القانون الطبيعي أساسا
قائماً، بل جملة الأساس الذي يضاف اليه القانون الوضعي والمتصف بمرونة
تكييف الحلول مع مقتضيات الحياة.
والواقع ان نظرية القانون الطبيعي وجدت
في الحياة القانونية والقضائية كفكرة لا يمكن إنكار دورها باعتبارها من
عوامل التقدم والتطور في القانون والحد من جموده وقسوته على مر العصور ،
فكانت السلاح الفكري الذي واجه فيه دعاة التحرر والتنوير قسوة التشريعات
الظالمة، فالقانون الطبيعي إيحاء ناتج عن التأمل توحي به الطبيعة ،بما
تنطوي عليه من نظام وانسجام وتناسق، يكشفه ذوي العقول النيرة من اجل مكافحة
ما هو شاذ وغير متناسق وغير معقول ، وبما يوحي به الضمير النقي من كره
للظلم والقسوة والتحيز وعدم المساواة.
ويبقى القانون الطبيعي أهم معيار
نظري نستنتج منه المبادئ العامة والموجهات العامة للعدل، مثل كون الناس
متساويين بالطبيعة، وشرعية الدفاع عن النفس، واحترام العهود ، واعطاء كل ذي
حق حقه، واحترام الملكية والحقوق المكتسبة والمعاملة المتساوية للبشر.
واياً
منا يشعر بالحيف عند الظلم، او بالغبن عند التحيز او حين يلقى معاملة غير
متساوية، او بالأسف والمرارة عند الجريمة، يكون ولا شك قد استشعر القانون
الطبيعي بداخله