عانى الرسول(ص) كثيراً، وهو يحاول إقناع زعماء قريش بدعوته، واتخاذ مكَّة منطلقها وسبيلها إلى بقية الحواضر والقبائل، الدَّائرة في فلكها الدِّيني ونفوذها الاجتماعيّ والاقتصاديّ(1). ثمَّ أثبتت محاولاته التالية، سواء مع الطائف أم اليمامة، صلابة هذه الجبهة والتزامها بالموقف القرشي المعبّر عن مصالحها الحيوية، ما جعلها ترفض مسبقاً فكرة الحوار مع الرسول(ص)(2). فوقع الاختيار على يثرب الخارجة عن الدائرة الجغرافية لمكة، على الرغم من وقوعها في دائرة المواصلات الرئيسة لتجارة قريش مع الشام.
لقد كان للأنصار (الأوس والخزرج) دور كبير في جعل يثرب مقرَّاً لدولة الرسول(ص)، وفي إخراج الإسلام من دار الاضطهاد إلى دار الهجرة. لقد كانت وقفة أولئك النَّفر من الأوس والخزرج بمستوى التاريخ؛ إذ كانوا أنموذجاً في العطاء والتَّضحية ونكران الذَّات، فاستحقُّوا لقب "أنصار الله وأنصار رسول الله"(3)؛ ذلك أنَّهم التزموا بالإسلام، واحتضنوا الرسول(ص) والمهاجرين، وانخرطوا في الجهاد.
والمتتبِّع للأحداث قد يجد وراء هذه الوقفة أسباباً اجتماعية واقتصادية، وليس أسباباً سياسية فحسب(4)، فقد كان للقاء العقبة الذي غيَّر مسار التاريخ الإسلامي، أسبابٌ دينيَّة تمثَّلت بمعاناة المسلمين في مكة، وإخفاقهم في إقناع قريش وحلفائها بالإسلام، وأسبابٌ سياسيةً ناتجةً عن مؤامرات اليهود ضد الأوس والخزرج، وأسبابٌ عسكريةً ناتجةً عن الحروب الداخلية التي أنهكت هاتين القبيلتين، وأسبابٌ اقتصادية ناتجةٌ عن تراجع الإنتاج الزراعي بسبب انعدام الاستقرار السياسي في يثرب(5). فكان لقاء العقبة محصِّلةً لهذه المعطيات أكثر مما هو نتاج مصادفة تاريخية(6). ولا يعني ذلك أن إسلام الأنصار كان سياسياً وناتجاً عن الحاجة إلى إرساء وضع جديد وتكريس سلام ثابت فقط، فتضحية الأنصار في سبيل الإسلام وجهادهم بأموالهم وأنفسهم، ناتج أيضاً عن إيمانهم بالإسلام ديناً، وبقيمه ومبادئه.
لقد عمل الرَّسول(ص) على إرساء علاقة اجتماعية متوازنة في المدينة، تقوم على كبح نزعتين لدى المهاجرين: أولاهما نزعة التفوُّق القبلي، بوصفهم ينتمون إلى قبيلة قريش، وثانيهما نزعة أسبقية الدُّخول في الإسلام. كما عمل الرسول(ص) على كبح النزعة الإقليميّة لدى الأنصار ومعها شعور المنقذ للإسلام من محنته الشديدة(7)، فنجح النبي(ص) في ترسيخ وحدة الأوس والخزرج في إطار الأنصار ووحدة هؤلاء مع المهاجرين في إطار الجماعة الإسلاميّة(8). فكان الأنصار شركاء أساسيين في تكوين الدولة الإسلامية في مختلف المجالات العسكرية والإدارية والاقتصادية، ما جعل هذه الدولة أكثر قدرة على تجاوز الخطر وقهر التحدِّيات المحيطة بها(9).
لقد اتَّصفت المرحلة الأولى من الهجرة بمهادنة اليهود، فاكتفى النَّبي(ص) بمراقبة نشاطهم ورصد تحرُّكاتهم، فكان اهتمامه منصباً على مواجهة الخطر القرشي، فعمل(ص) على توثيق عرى الوحدة بين المسلمين في المدينة، وتجنيب جبهته الداخلية مخاطر التصدُّع والشقاق. الأمر الذي تجلّى في المواجهة الهادئة مع حركة النفاق.
وفي المقابل، كان موقف اليهود من الهجرة فاتراً، يؤكِّد ذلك عدم اتِّصالهم بالرسول(ص) قبل حدوثها، فضلاً عن الاستجابة الضعيفة من جانبهم للدعوة إلى الإسلام. وقد بدا أنَّ اليهود يقومون بمحاولة لاحتواء المسلمين والمراهنة على انقسامهم، وذلك تمهيداً لإخراجهم من المدينة(10). ويبدو أنَّ القبائل اليهودية التي كانت تعيش هاجس السَّيطرة العربية، قد عانت أيضاً من الانقسام، ولم يكن وضعها يتجاوز الموقف الدِّفاعي، والسَّعي ما أمكن إلى تأجيج الصراع بين الأوس والخزرج حتَّى بعد إسلامهم. فلم تكن هذه القبائل اليهودية قادرة على التدخل الفعلي لمنع الهجرة، أو التصدِّي لها بصورة جديَّة، ويبدو أن الرسول(ص) العارف بأمور يثرب ووضع اليهود فيها لم يرَ في هؤلاء ما يمثِّل مصدراً للخطر على الهجرة(11). ومما تجدر الإشارة إليه، أيضاً، أن النَّبي(ص) انفتح على اليهود وعقد معاهدة معهم، لكنهم لم يكفُّوا عن المجادلات الدينية وافتعال الأزمات السياسية. وقد لعب المنافقون دوراً في هذا النزاع وكان للنبي(ص) موقف منهم.
الاسم :منال عبدالموجود احمدمحمود محمد الفرقة : الثالثة
الشعبه:رياضيات