* السعادة.. الحب.. الضمير.. و..و...كلمات غامضة يستحيل بلوغها عن طريق التعريف اللغوي والتوصيف.. بل هي لآلئ ـ أو أغلي ـ يلزم أن تنقب عنها بالغوص بنفسك في أعماق أعماق الحياة.. لتكتشف في النهاية أنها داخل ذاتك أنت شخصيا..!!
فتخيل ما نلهث لبلوغه يمينا ويسارا بأرجاء الحياة, وندوخ من أجله السبع دوخات.. ما بين حل وترحال.. ومناصب أو ثروات أو.. تكتشف في النهاية أنه بداخلك أنت..!!
فما أغربها تلك الحياة بحكمتها وبلاغتها وسهلها الممتنع.. وما أعجبه ذلك الإنسان باندفاعه المحموم كالفراش نحو البريق الزائف والأضواء ـ محترقا بها في أغلب الأحوال ـ تاركا أعماق الذات مقفرة وموحشة.. دون أدني إنارة أو إعمار أو تعبيد..!!
وإذا كان للفيلسوف البليغ ديوجين مقولته الخالدة عندما شوهد يبحث بمصباحه عن شيء في عز النهار بالطرقات.. فلما سئل عنه أجاب أنه يبحث عن الإنسان.. ففي رأينا المتواضع أن هذا الإنسان يلزم أن يجري البحث عنه بالداخل وفي الأعماق وليس بالطرقات.. وأن هذا المصباح هو الآخر يلزم أن ينبع ويشع من الداخل كي ينير لنا هو تلك الدروب والطرقات!!..
إن بلوغ المعني الحقيقي لكل ما سبق يبقي طلسما غامضا يحتاج إلي من يفك رموزه.. فإذا بدأنا اليوم بمعني السعادة ـ محور رسالة الأسبوع الماضي ـ فما هي هذا الشيء الهلامي الأقرب إلي الوهم والسراب؟!
لاأخفيك أني بعد مناقشات ومبارزات مع النفس والغير حول مثل هذه المعاني, انتهت جميعها لمزيد من الغموض.. فقد قررت التوقف تماما عن مجرد التفكير فيها.. مركزا كل اهتماماتي علي القيام بالدور الأساسي الذي خلقنا المولي من أجله.. وهو إعمار الكون والأنفس من قبله وبعده.. وذلك وفق الخطوط الرشيدة والبليغة التي حددها لنا.. وهي أنه بذاته جل علاه, وبلا أي واسطة أو تقارير, سيري بنفسه هذه الأعمال.. وأنه من أجل ذلك أمرنا بالإتقان والذي يفوق بمراحل ـ لفظا ومعني ـ ما يسمي في عصرنا هذا بالجودة أو معاييرها.
بما يعنيه ذلك بالضرورة من عدم الكروتة أو التزويغ.. أو التذرع بتبريرات فاسدة ومدمرة من نوعية علي قد فلوسهم.. فأنت تعمل في هذه الحياة من الأصل والبداية بتكليف من الله وعنده مباشرة.. وأعمالك سيراها بذاته أولا بأول.
مضي بنا قطار الحياة بمحطاته ـ وبحوادثه وصداماته ـ والذي آثرنا أن نشارك بفعالية في جل أحداثه.. من تطوع عند الحروب.. أو المشاركة في حملات مضنية لجمع التبرع بالدم أو المال للمجهود الحربي أو عند الحوادث والكوارث.. وصولا للمشاركة أيضا بالمظاهرات.. ومعاك كشف الفساد.. و...و..
وانتهي بنا المطاف إلي نشاط محدود داخل أرجاء الكلية لمعاونة غير القادرين من الطلاب والعمال بالمصروفات والكساء.. وأغلقنا ملفاتنا ـ اكتفاء بهذا الدور ـ في انتظار أن يقضي الله بأمره المحتوم وبلوغ محطة الوصول.
لكن القدر كان له رأي مغاير.. فإذا بالخالق عز وجل وكأنه أراد أن يمنحني مكافأة نهاية الخدمة.. منبها إياي أن المهمة لم تنته بعد ـ بل وستبدأ من جديد ـ فإذا به يعثرني علي كنز رائع وثمين أتحدي أحدا بالعالم إلا قلة يصادفون مثله..!!
فذات يوم منذ نحو ثلاثة أعوام.. وبعد طرقات خافتة علي باب المكتب وثلاث من الملائكة الشابات يسألن عني شخصيا.. فتخيلت علي الفور انهن من طالبات المعونات.. فإن بهن من السخيات في العطاء.. بل ويملكن أنقي وأروع وأغلي مفاتيحه ـ عطاء الحب والنبل والمساندة والقيم والأحلام.. الأحلام بألا يوجد بمجتمعنا كسير أو محتاج.. وأنهن يرجونني أن أقبل تبني هذا الحلم والإشراف عليه.. فإذا بي أنا الذي أغلق ملفاته ويقبع بالانتظار أرجوهن باندفاع وحماس وإلحاح أن يقبلن هن أن يأخذوني معهن بهذا الحلم النبيل والنشاط.. وإذا بروح جديدة تدب بالعروق والأوصال.. وبدأنا ـ ومعنا نفر قليل من الطلاب ـ الرحلة والطريق.
واخترنا لأنفسنا اسم قافلة شعاع الخير.. ومازلنا نتذكر تلك اللحظات التي بدأنا فيها وقلوبنا تخفق بالأمل والرهبة والخوف ـ الخوف من الفشل في تحقيق أبسط الأحلام.. والتي لا نملك لها مليما واحدا من الإمكانيات.. وتوكلنا بكل إخلاص ورجاء علي الله.. فإذا بنا ومن اليوم التالي مباشرة تنفتح علينا أبواب السماء.. وينهمر الخير بصورة لا تصدق.. فأيقنا أن الله معنا.. وحمدناه وواصلنا المسير.. وبالأخص داخل الكلية لذوي الحاجة من الطلاب والعمال.
إلي أن جاء ذات يوم خارج التوقعات والحسبان.. عندما قررت قافلتنا المضيئة ـ وبأحد أيام رمضان ـ الذهاب ولأول مرة لأطفال الفشل الكلوي والسرطان وتنظيم حفل ترفيهي لهم.
وداخل قاعة مكتظة بالفقر والثياب المهلهلة والاصفرار والهزال.. ورائحة العرق الكريه والمرض.. وجو عام من الاكتئاب والإحباط.. فإذا بمفاجأة وتحول مذهل وغير متوقع يحدث فور دخولنا وعبورنا الباب.. فإذا بسكينة وأضواء روحانية تغمر الجميع والمكان.. وأحاسيس لا توصف.. وارتقاء لأعلي درجات السماء.. فأيقنا أن الله بملائكته كان في الانتظار والاستقبال.. وبالفعل فإذا بالكل في حالة وجدانية رائعة ومرهفة.. اختلطت فيها الدموع الساخنة مع الرقص والغناء لا فرق بين طالب وأستاذ والأطفال في أحضاننا أو فوق الأكتاف.. و..و..
وإذا باللحظات الخاطفة تعبر عن مرور ساعات.. ولا أحد يريد التوقف.. ولا حتي الفرقة التي كانت لديها ارتباطات.. ولا أهالي المرضي أو الأطفال.. إلي أن جاء التوقف في النهاية رضوخا وامتثالا لمقتضيات ومواعيد الدواء وجلسات العلاج..
وعدنا لمنازلنا بعد سفر مرهق ـ وبحكم السن والصيام ـ فيما يشبه الإنهاك.. وبعد غفوة التقاط أنفاس.. فإذا بي أرفض تماما مغادرة الفراش أو حتي إضاءة الحجرة.. فمازلت أعيش وأسبح في تلك الحالة الرائعة غير المسبوقة في حياتي علي الإطلاق.. واسترجع شريطها بلحظاته مرات ومرات.. لأفاجأ بهاتف دخيل من الأعماق يقطع علي هذه الحالة بعند وإصرار.. ويقول لي كنت تتساءل في الماضي عن معني السعادة.. فها انت تعيشها الآن بكل مذاقها ونبلها.. ولا تريد أن تتسرب منك أحاسيسها أو روعتها!!
فيا الله.. أخيرا جاءتنا الإجابة.. وبعد أن انصرفنا أساسا عن التفكير في السؤال!!.
طيب.. وإذا كانت هذه هي السعادة, فبماذا نسمي ما كنا نشعر به بأنشطتنا السابقة من تبرع بالدماء أو مساندة العديد من ذوي الحاجات.. فيأتينا الرد بأنه كان الإحساس بالرضا عن أداء المهمة, أو ما هو أكثر منها.. أما ما حدث اليوم فهو يختلف جذريا عن كل ما سبق.
وكان الدرس: السعادة ليست سلعة جاهزة يمكن الحصول عليها بالمال أو بالجاه بل يجب أن تصنعها أنت بذاتك وكيانك.. وأن تغرسها في نفوس الآخرين.. كي تحصدها في النهاية من نظرات العيون!!..
يا الله.. ما هذه البلاغة في الدروس؟ أي أن السعادة يستحيل أن يبلغها الإنسان لنفسه متفردا وحيدا.. وأنها لا تأتينا إلا بغرسها لدي الآخرين.. ما هذه الروعة؟!.
ولعل في ذلك إجابة علي صاحب الرسالة الذي كان يكتفي بإعطاء أو بالأحري إلقاء بعض الصدقات والجنيهات علي أشقائه دون أن يعيرهم أدني اهتمام.. ويشكو من التعاسة والجفاف!!.
وللأسف فأمثاله بالملايين ممن يتصورون وهما بأن دورهم يقتصر علي مجرد إخراج الصدقة أو الزكاة,, ودعك عن هؤلاء الجماد الذين يعجزون أو يتأففون من وضع اللقمة أو الدواء في فم أمهاتهم.. أو أن يغسلوا لهن أيديهن الطاهرة.. أو يدخلوا بهن لدورات المياه.. أو.. بل ولا يطيقون حتي السماع لهمومهن أو حكاياتهن المكررة والمعادة.. ويتصورون أنهم أبرأوا ذمتهم بالهدايا أو بالشهرية المقررة لهن أو للخادمة أو دار الرعاية التي وكلت بها بدلا منهم.
وهم أنفسهم بالمناسبة نفس الأراضي البور والجماد الذين يتأففون من زيارة أي مريض بالمستشفيات تحت تلك الحجة البالية, أن مشاعرهم لا تحتمل ـ ياعيني ـ مشاهدة هذه الحالات, وهم في واقع الأمر لا يملكون من هذه المشاعر سوي الأنانية المفرطة وحب الذات!!.
وعلنا هنا نتأمل معا في تلك المعاني الرائعة والبليغة التي وردت بكتاب النبي لجبران خليل جبران: أنك مهما أعطيت مما تملك.. فإنما أعطيت القليل.. أما العطاء الحقيقي فهو أن تعطي من ذاتك ومن نفسك.. ولعل هذا هو الفارق ذاته بين زراع وصناع الحياة والبهجة والسعادة.. وبين المحرومين منها ويظنون أنهم علي قيد الحياة!..
عموما توالت علينا بعد ذلك بالقافلة السعادة الرائعة والغامرة بلا حدود.. فالفئة المباركة القليلة التي كانت تنوء بأعباء العمل أضحت بالفعل قافلة متسعة كبيرة يشكو أعضاؤها أنه مازال لديهم الكثير من الطاقات غير المستغلة.. والخريجون لا يتركوننا إلا لسفر أو زواج.. ولتسمع من كل وافد جديد كلمات ونغمات وحيدة لا تتغير أنا ولدت من جديد.. قبل كده حياتي لم يكن لها معني.. أرجوكم عايز دور أكبر و..و...
وانتقلت أنا في الدور والمكانة من مجرد مشرف أو دكتور.. إلي أن أصبحت بالنسبة للجميع بابا فلان فهل من سعادة في الدنيا أعمق وأروع من ذلك.. أن تكون أبا لهذه الكوكبة الرائعة من الملائكة.. وأن تسمع بكل عذوبة وحنو لنداء بابا من أفواههم.. وقلوبهم طلابا وطالبات..؟! أتحدي.
فإذا كنت قد خرجت من الدنيا دون أي ثروة أو ممتلكات سوي هذه الكلمة الرائعة والوسام الذي اختصني به الله وملائكته ـ والذي ينطق به أحيانا بعض المعاقين والأيتام ـ فأنا بلا أدني شك من أغني أغني الأثرياء!!.
وامتد الغرس وشعاع الخير ليشمل الكثير من المجالات.. من إنشاءات وتجهيزات تعليمية بمدارس فقراء المعاقين التي تعاني اللا آدمية والإهمال.. للمشاركات الوجدانية والإنسانية أكثر من المادية للأيتام وأطفال الكلي والسرطان من المسلمين والمسيحيين علي حد سواء ـ.. لتوزيع الأقمشة والبطاطين بالشتاء.. وشنط الطعام..و..
ولن تصدقني إذا قلت لك إننا في كل مرة نجد الله في الانتظار والاستقبال.. وننتقل إلي ذات الحالة الوجدانية والارتقاء لأعلي درجات السماء.. رافضين تماما ـ ودوما ـ الانصراف حتي بعد مغادرة الأطفال.. كنوع من التلذذ بالشعور بالروحانية والسعادة التي تغمرنا, والممزوجة بأروع لحظات حب تجمعنا بالقافلة لدرجة الشعور عند المغادرة في كل مرة بعذاب الفراق!!. هل تصدق..؟؟ والله.. والله.. هذا يحدث ـ بل وأكثر منه.
سيدي إذا صدقتني بأننا نجد الله في كل مرة بالانتظار.. فاسمح لي أيضا أن نقول لك إننا نراه.. وعلي الدوام.. فكم من مطلب بسيط أو عويص لبعض ذوي الحاجة مما قد نعجز عنه أو لا نملكه.. إلا ونجد وعلي الفور طارقا أو هاتفا بالتليفون ينبئنا شاكيا تصور بأنه لديه فائضا من هذا ـ نفس هذا الشيء ـ ولا يعرف كيف يتصرف أو يتصدق به لمن يحتاجه..!! فننظر إلي الله مبهورين وخاشعين.. ومرددين في نفس واحد يا سبحان الله!!..
ويتكرر هذا الأمر بصورة عجيبة ومذهلة مرات ومرات.. لدرجة أننا أصبحنا ما يشبه محطات للتفريغ والتحميل دون أي فضل منا!!.
بل ولدرجة أننا كنا نضطر في العديد من الحالات ـ تخفيفا للعبء.. أو حماية لأنفسنا من القيل والقال ـ أن نغلق هذه المحطة مقتصرين علي توجيه أصحاب الأيدي الكريمة رأسا لذوي الحاجات.
ويضيق المجال أن نسرد لكم لمسات السعادة الرقيقة والسامية التي تحاول القافلة أن تزرعها للجميع وفي شتي المناسبات.. من وفاء للمحالين للمعاش.. لاحتفاء بالأوائل.. إلي عيد الأم والذي يشمل من العاملات لهيئة التدريس.. ورمضان بشنطه الكريمة.. وإفطاره الرائع مع المرضي وأطفال الجنة من الأيتام والمعاقين.. وأعياد أشقائنا المسيحيين ـ والتي كان آخرها والذي جاء ردا علي حادث الإسكندرية مهرجانا حقيقيا للحب والوفاء والانصهار.. والذي تفضلت صفحة شباب وتعليم بجريدتكم الرائدة بتناوله تفصيلا في حينه.
سيدي.. لم أقل لك إن حياتي نغمة حالمة بلا هموم ومشكلات أو حتي بلا أخطاء جسيمة وعيوب.. بل علي العكس فقد اختصني الله منها وله الحمد بالكثير والعويص... مما قد يستحق منك أن تفرد له صفحتك لأسابيع.. ولكنه أنعم علي في الوقت ذاته ببصيرة جعلتني ادرك ـ ومنذ البداية ـ ان للحياة أدوارها المتعددة والمتنوعة والمتشعبة.. وليست مجرد دور ضيق وحيد.. وأن لها بالتالي العديد من الدروب والطرقات.. فإذا صادفت تعثرا أو تعاسة باحدها الصحة أو الأسرة أو العمل.. فمازال أمامك باقي الطرقات.. وعلي رأسها دوما ذلك الطريق الذي تجد فيه ـ حتما ويقينا ـ الله دائما في الاستقبال والانتظار..!!
والآن فنحن علي أبواب عمل ضخم كبير ونبيل لأطفال السرطان وأمراض الدم بمستشفانا الجامعي يتطلب ملايين لن نحدثكم عنه الآن كي لا تتصور أن رسالتنا لهذا الغرض.. لكن لنقول لكم إننا لانملك له مليما واحدا.. لكننا علي ثقة تامة ـ ككل مرة ـ أن الله بالانتظار..!!
والفضل في ذلك كله ـ بعده عز وجل ـ لتلك الضمائر والقلوب الشابة التي تقود العمل وتبدع فيه بتفان وتجرد منقطع النظير.
فمن السهل والمنطقي أن تجد متقدما في السن أو شيخا أو قسيسا يهتم بأمور الأرامل ورعاية الأيتام.. أما عندما تجد ما هو أروع وابدع من ذلك يأتي من بين زهور غضة ومتفتحة وقلوب خضراء ـ منصرفين من أجلها عن جميع المغريات ـ فذلك هو الاعجاز.. وتلك هي السعادة المضاعفة.. سعادة اللحظة والانجاز.. وسعادة الاطمئنان علي مصير هذا الوطن بأن به أمثال تلك النماذج الراقية الرائعة.. والتي يوجد مثلها بالآلاف بالجمعيات الخيرية الشبابية الأخري.
فهل من اطمئنان وسعادة اروع.؟!
وإذا كان المسيح عليه السلام قد غسل بيده المباركة اقدام حوارييه.. فأنا لا استحيي القول بأني اتمني تقبيل هذه الأقدام.. أقدام ملائكة شباب صحبة وصحابة الخير.. والتي يسلكون بها طرق النبل الوعرة والمتربة للمساندة والعطاء.. بل وأضع هذه الأقدام ذاتها أيضا ـ وبكل فخر ورضا وسعادة ـ فوق رأسي قبل قلبي.!
فشكرا وسجودا وعرفانا للخالق عز وجل علي تلك المكافأة والكنز الذي وهبني إياه.. وتلك السعادة الرائعة التي غمرنا بها.. وأحاطنا بسر صنعتها.!!
والآن فهل استطعت ان أقترب من إجابة ذلك السؤال العويص عن معني السعادة وكيف نجدها؟ وهل اختلفت في ذلك عما وصفته انت في ردك علي صاحب الرسالة؟.. ام انها اتفقت معه في الجوهر والصميم..؟
وهل لمن يشكو التعاسة والجفاف أن يلحق بالطريق؟.. ام سيظل أسير الأطماع والأحقاد.. والغش والكروتة.. وجفاف الأفئدة والضمائر البور؟!
ولكم في النهاية خالص الحب والقبلات والدعاء..
دكتور/ عادل حسن قاسم
عضو هيئة التدريس ـ كلية التجارة ـ جامعة الزقازيق
{ سـيدي.. قبل قراءتي لرسالتك بيوم واحد كنت في زيارة لمعهد الأورام التابع لجامعة القاهرة, وما شاهدته وسمعته جعلني أشعر بالضآلة وبالغضب وبالدهشة.. كيف لنا أن ننام, أو نهنأ أو نتحدث عن السعادة, وبيننا أطفال وشباب يئنون من إصابتهم بالسرطان وتعجز إمكانات الدولة عن علاجهم, ونقف نحن مكتوفي الأيدي, علي الرغم من أننا نمتلك الكثير, والقليل منه يجعل الضحكة تتقافز علي شفاه بريئة.
كنز ثمين تشرع نوافذه أمامنا بزهورك الجميلة التي تؤكد أن مصر ستظل عامرة مزدهرة, دافئة, بشبابها الرائع الذي يبحث عن فرصة ليرفع الغطاء عن كم الخير والعطاء الذي يسكن قلوب مستقبل مصر.
دعني أحكي لك ولأصدقاء بريد الجمعة ما شهدته ـ وما أقوله لايدين المعهد بقدر ما يدين كل المجتمع خاصة مترفيه ـ فالمعهد بطوابقه المتعددة ينوء بزائريه, فلا مكان للأطفال الذين ينتظرون دورهم للحصول علي جرعة الكيماوي, أطفال تنام علي السلالم, وفي الطرقات, وأمام المعهد. لاتوجد حجرة خالية, الأطفال الذين يحصلون علي الجرعة يجلسون علي المقاعد بالساعات, معلقة في أياديهم المحاليل, يتحلق أهلوهم حولهم, تتلمس الحزن والحسرة في عيون الجميع,
أما الأسرة فقد ضاقت بنائميها, علي السرير الواحد أكثر من طفل, أجساد مهدودة, رؤوس حليقة, وابتسامات بريئة باهتة. المريض الواحد يتكلف عشرات الآلاف من الجنيهات, العلاج مكلف لكنه يأتي بنتائج مذهلة, الجانب المشرق في هذه المأساة, هم هؤلاء الزهور الذين تتحدث عنهم.. شباب وفتيات متطوعون للتخفيف عن الأطفال, يتحلقون حولهم كالملائكة, كل ركن في المعهد شاهد علي إنسان وجد سعادته في إسعاد الآخرين.. حجرة وحيدة ضيقة بها بعض الالعاب المهداة من الزائرين, يزدحم بها الأطفال, هل يمكن تخيل أن ألعاب أطفالنا التي نبدلها ونرميهايمكن أن تسعد هؤلاء الاطفال, الملابس القديمة
القصص الملونة, علب الحلوي, والكلمة الطيبة, كلها أشياء, مع بساطتها تمنحنا السعادة قبل أن تتسلل إلي قلوب هؤلاء الصغار الذين يقضون ليلهم في ألم وأنين.
سيدي.. أقدر الإحساس النبيل الذي تتحدث عنه, تلمسته بيدي, وأيقنت أن الله سبحانه وتعالي يبتلي البعض منا فيعجزه ويحرمه من سعادة بأبخس الأثمان.. بعضهم يبحث عن المحبة والسعادة بإقامة الحفلات والولائم وتقديم الهدايا لمن لا يحتاج, وتعمي بصيرته عن رؤية أبواب السعادة والرضا.
سيدي.. لا أريد تكرار معان سامية أوردتها في رسالتك, ولكني أعيد التأكيد علي أن السعادة لن تأتي أبدا إلا بإدخال البهجة إلي قلوب الآخرين, وأنتهزها فرصة لتذكير التائهين في دروب الحياة وهم يجهلون الدرب الممهد للسعادة, وأدعوهم إلي مد أياديهم الي المستشفيات, ودور الأيتام والملاجئ, فلن ننتظر هذا من الحكومة.. زيارة واحدة قد تكفي لإنارة طريق البهجة والاحساس بالرضا في النفوس.. وأذكرهم أيضا بأن مستشفي57357 قد اكتمل بناؤه الرائع, وأصبح علي وشك الافتتاح بعد شراء أغلب الاجهزة, وكل هذا تم بالتبرع بجنيه
وأغلب الذين ساهموا في إنشاء هذا المشروع متبرعون بوقتهم, وخبرتهم, ومالهم, ونفوسهم الطيبة, هذا المستشفي سيستوعب كثيرا من أطفالنا المرضي, فأغلب مرضي السرطان من الأطفال أقل من18 سنة, لأن42% من سكان مصر تحت هذه السن, والاحصاءات العالمية تقول إن واحدا من300 تحت سن18 يصاب بهذا المرض, فإذا أضفنا عوامل الازدحام والتلوث لأيقنا أن مصر مصابة في مستقبلها.. هذا المستشفي يحتاج مزيدا من الدعم الانساني, من الزهور الطيبة أمثال أبنائك, الذين أدخلوا البهجة والتفاؤل الي نفسي مثلما أدخلوها إليك
وكذلك مشروعكم الرائع في جامعة الزقازيق الذي ينتظر زهورا جديدة تنهض به ليمسح ألم طفل أو دمعة أم.
سيدي.. جاءت رسالتك كباقة أمل, وقمر علي طريق الخير, وسط رسائل مليئة بالشكوي من الحياة, من الحب والفراق والزواج الثاني والثالث, لتؤكد لنا مرة أخري, أننا في حاجة إلي إنارة ذواتنا حتي تشع بالخير علي الآخرين, فإذا هنئوا وقرت عيونهم.. نام البشر سعداء وإلي لقاء بإذن الله.