بقلم: د. أحمد عبد الخالق
حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على سيدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن صار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين، وبعد...
فإن تأملاتنا في هذه الحلقة سوف تكون حول الولاء والبراء؛ باعتبارهما جزءًا لا يتجزَّأ من عقيدة الإسلام؛ فالولاء هو الشيء الوحيد الذي يثبت انتماء المسلم لدينه؛ حيث إنه لا شيء يبيِّن كون الإنسان من حزب الله أو حزب الشيطان كالولاء؛ فلا الصلاة ولا الزكاة ولا الحج ولا الصوم ولا غير ذلك من أعمال الإسلام يجعله من حزب الله إذا خدش ولاؤه، وإذا صح ولاؤه فإنه يكون من حزب الله على تقصير في العمل، وفي الحديث: "مَنْ فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم" (الحديث رواه الترمذي في كتاب (الأمثال) باب: ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة).
ويؤكد هذا المعنى الذي ذكر: كثير من آيات القرآن، فقد قال الله تعالى: في وصف المنافقين: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النساء: 128، 129).
لذلك فإننا نلاحظ كل مرة ذكرت فيها كلمة حزب الله في القرآن إنما ذُكِرَت بجانب الولاء، مقيدةً فيه؛ مما يدل على أن الولاء هو الميزان الذي يوزن إيمان الإنسان به.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (المائدة: 56)، وقال تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: 22)؛ فهاتان الآيتان بيَّنتا أنه لا يكون الإنسان من حزب الله إلاَّ إذا حرَّر ولاءه ومودته، فلم يعطهما لعدو لله مهما كان نوعه، بل يعطيهما لله ورسوله، وهذه هي الصفة الأولى للمؤمنين.. قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ (التوبة:71).
إن الله عز وجل حرَّم على المؤمن أن يعطي ولاءه للكافرين على اختلاف أنواعهم، كما حرَّم عليه أن يعطي ولاءه للمنافقين على اختلاف أنواعهم، ومتى أعطى المؤمن ولاءه للكافرين، فقد صار منهم، ومتى أعطى ولاءه للمنافقين فقد صار منهم، وإذا أعطى ولاءه للمؤمنين صار منهم، إذا أدى حق الإيمان، وإليك النصوص القرآنية القطعية التي لا تحتمل جدلاً:
قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض﴾ (التوبة: 67)، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال: 73) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 51)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة: 57، 58)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة: 23)، ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ (آل عمران: من الآية 28).
ومعنى إلا أن تتقوا منهم تقاة؛ أي إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه؛ فالله عز وجل منع من موالاتهم ظاهرًا وباطنًا، إلا وقت المخافة، أما في حالة الاختيار فلا يجوز بشكل من الأشكال، ويقول القرطبي: إن المؤمن إذا كان قائمًا بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفًا على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم.
تعريف الولاء والبراء اصطلاحًا
وحتى يتضح المعنى للولاء والبراء فإننا سوف نقوم بإلقاء الضوء عليه، من حيث التعريف به وتجليته؛ وذلك نظرًا لأهميته، باعتبارهما جزءًا أصيلاً من عقيدتنا المباركة؛ فقد ذكر محمد بن سعيد القحطاني في كتابه (الولاء والبراء في الإسلام) تعريفًا للولاء فقال: الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا؛ قال تعالى ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 257)، فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا.
أما البراء فهو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.
شرح التعريفين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاية ضد العداوة وأصل الولاية: المحبة والتقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد، والولي: القريب؛ يقال: هذا يلي هذا أي: يقرب منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"؛ أي لأقرب رجل إلى الميت.
فإذا كان ولي الله هو الموافق التابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديًا له، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة﴾ (الممتحنة: من الآية 1)؛ فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، وذلك كما جاء في الحديث: "مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" (أخرجه البخاري في كتاب الرقائق حديث/6502 فتح الباري 11/341) وفي رواية: "فقد بارزني بالمحاربة".
ومسمى الموالاة لأعداء الله: إنما يقع على شعب متفاوتة؛ منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات.
ولما عقد الله الأخوَّة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى، وملحدين ومشركين وغيرهم.. كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين أن كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان خلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان، وحيث إن الولاء والبراء تابعان للحب والبغض فإن أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله.
ولقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "مَنْ أحبَّ في الله وأبغض في الله، ووالىَ في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا" (ذكره جامع العلوم والحكم مخرجاً عن الطبري . تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجي جـ1 ص 125 مؤسسة الرسالة ط 1995).
وإذا كان حبر هذه الأمة يذكر أن مؤاخاة الناس في زمانه قد أصبحت على أمر الدنيا، وأن ذلك لا يجدي على أهله شيئاً، وهذا في خير القرون؛ فجدير بالمؤمن أن يعرف من يحب ومن يبغض، ومن يوالي ومن يعادي، ثم يزن نفسه بميزان الكتاب والسنة، ليرى نفسه أهو في حزب الشيطان، أم في حزب الرحمن؟!
وإذا كانت المؤاخاة والمحبة على أمر الدنيا، فإنها لا تلبث أن تزول بزوال العرض الزائل، وحينئذٍ تكون الأمة في ضعفٍ وهوان، ولن تعود للأمة مكانتها، ولن تقوم لها قائمة إلاَّ بالرجوع إلى الله والاجتماع على الحب فيه والبغض فيه والولاء له والبراء من أعدائه، ويومئذٍ نفرح نحن المؤمنين بنصر الله لنا ورضاه عنا، وهذا هو الأمل المنشود والهدف المقصود والعزم المعقود، والله ولينا وناصرنا وهو مولانا وعليه اعتمادنا.
إننا في زمن قد اختلطت فيه الولاءات، وأصبح الكثير من المسلمين لا يفرِّق فيه بين عدوٍّ وصديق، ولا بين الظالم والمظلوم، فصاروا يتعاملون مع الكل بصورة واحدة، بل ربما كان التعامل مع العدو أفضل من التعامل مع الصديق، والتعامل مع الأعداء أفضل من التعامل مع الأولياء، فهذا بلا شك يعدُّ خدشًا للإيمان، بل ويعتبر منحنى خطيرًا يُخرج صاحبَه من حظيرة الإيمان، ومن هنا ولأهمية الموضوع فإنني سوف أذكر مظاهر الولاء والبراء في الحلقة القادمة بإذن تعالى الله؛ حتى تكتمل الصورة وينجلي الأمر، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.