بقلم: د. حمدي فتوح والي
منذ انطلق صوت الخليل إبراهيم عليه السلام ينادي في دعاء خاشع: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)﴾ (إبراهيم
.
منذ انطلق هذا الصوت الجليل المهيب، وأفئدة المؤمنين في جنبات الأرض كلها تهوى حنينًا إلى البيت الحرام، وتذوب شوقًا لرؤية ذلك البيت الكريم؛ حيث تسكب العبرات، وتفيض البركات، وتُقال العثرات، وتُغفر الزلات، وتُضاعف الحسنات، وتمحى السيئات.
أذَّن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج صادعًا بأمر ربه، فتجاوبت لندائه قلوب المؤمنين الصادقين قائلةً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، وقام إبراهيم يرفع قواعد البيت، ويعاونه ولده إسماعيل.. أيديهما ترفعان البناء، وأعينهما تتجه إلى السماء، وقلبهما يلهجان بالدعاء: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم(ُ128)﴾ (البقرة).
ولا تزال ذرية إبراهيم من ولده إسماعيل هي الأمة المسلمة لله رب العالمين، يناديها ربها فتقبل، ويأمرها فتذعن، ويدعوها إليه فتستجيب، وباستجابتها لربها تعلن عن يقين خالص، وإيمان عميق.
وما ظنك برحلةٍ مبعثها الشوق، وحاديها الحب، ومقصدها القرب من رحاب بيت الله الكريم، وحتى يُؤذن لك بالدخول إلى حماه، والفوز بمعيته ورضاه، فينبغي أن تنخلع من دنياك، وأن تتجرد من هواك، وتخلص بكيانك كله لمولاك، حتى لا يبقى لنفسك نصيب، ثم تغتسل لتزيل عن جسدك أدرانه، ثم تنوي الإحرام، محرِّمًا على نفسك ما كان حلالاً قبلُ، مِن لبس المخيط ومسِّ الطيب، ومعاشرة النساء، ولتكتفي من اللباس بإزار ورداء.
وهذا التجرُّد الظاهر يسلم إلى تجرد أعمق، وانخلاع أعظم، وهو التجرد من الذنوب والانخلاع عن الآثام. وإذا حفظ المرء جوارحه، وصان مشاعره واهبًا قلبه لنور الله، وما أجدر المشتاق إلى رحاب حبيبه أن يجمع قلبه، ويحدد قصده، وأن يكون على فهم ووعي بأن البيت بيت الله عزَّ وجلَّ، فقاصده قصد لله، وزائره زائر له، فيكتمل شوقه بالنظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار، وإذا كانت العين القاصرة الفانية في دار الدنيا، لا تتهيأ لقبول نور النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ، فعلى المشتاق الذي يقصد بيت الله الكريم أن يكون عاليَ الهمة عظيمَ القصد، صادقَ النية، ليكون من أهل قوله سبحانه: ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)﴾ (القيامة).
وليعلم أن من طلب عظيمًا خاطر بعظيم، فليعد عزمًا صادقًا، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وهمةً عاليةً.
واعلم أنك بعزمك الحج قاصدًا إلى مفارقة الأوطان، ومهاجرة الشهوات واللذات، متوجهًا إلى بيت مولاك، فلتعظم في نفسك قدر البيت ورب البيت: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾ (الحج).
فطهر قلبك من الرياء، ونزِّه لسانك عن الغيبة والنميمة، وسمعك عن اللغو، واربأ بنفسك عن مواطن الشبهة، وارتفع بهمتك عن سفاسف الأمور، واعلم أن الله لا يقبل العمل إلا ما كان خالصًا لوجه، وابتغي به رضاه، ما دمت راغبًا في قبول زيارته فنفذ أوامره، واجتنب نواهيه، ورد المظالم إلى أهلها، وتب إليه، واستشعر الخشية منه، والرجاء فيه، والذل له، والإقبال عليه.
ولا تُقبل عليه إقبال العبد العاصي، فيردك ولا يقبلك، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك؛ لتكون متوجهًا إليه بوجه ظاهرك، فإن لم تفعل لم يكن لك من سفرك في الدنيا إلا النصب، وفي الآخرة إلا الطرد والرد.
ولتكتب وصيتك لأهلك وأولاك، وتذكر بسفرك هذا سفر الآخرة، واطمع أن يكون هذا السفر تيسيرًا لذاك:
﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: من الآية 197).
أما زاد الرحلة فاجعله من خلال طيب، واجعل تكاليف حجك من مالٍ لا شبهة فيه، واعلم أن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، ولا تستكثر على خالفك ما أنفقته من نفقة الحج، واعلم أن ما قدمته هو الباقي لك عند ربك، وما خلفته معدود عليك، وموروث عنك، وربما كان لك أو عليك، فلا يكن مال وارثك أحب إليك من مالك، فما لك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت، فلا تضن بالهدى مع قدرتك عليه بخلاً به، فإن المال مال الله، وتذكَّر قول حبيبك صلى الله عليه وسلم وهو يوصي أسماء بنت أبي بكر: "لا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عيك" (1) (2).
واعلم أن خير الحج: العج (3) والثج، وتذكر عند هديك ونسكك قول ربك سبحانه: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ (الحج: من الآية 37).
فإذا أحسنت اختيار الزاد، وجعلت تكاليف حجك طيبةً طاهرةً فتذر زاد الآخرة، وأنصت بأذن قلبك إلى وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر أحكم السفينة في البحر فإن البحر عميق، وخذ الزاد كاملاً فإن السفر طويل، وأخلص العمل فإن الناقد بصير، وخفف الحمل فإن العقبة كئود".
فإذا بلغت مكة وظهرت لك أنوارها، وهبَّت على أردان قلبك نسماتها، وصافحت عيناك جبالها، فأقرئ مكة السلام واسأل ربك خيرها، وتذكر أنك بحضرة البلد الحرام، في الشهر الحرام، فاهتز قلبك طربًا، ولهج لسانك بالدعاء رغبًا ورهبًا، فقل: "اللهم زد هذا البلد تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً وبرًّا، وزد من حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً وبرًّا".
واجعل دخولك إلى بيت الله من باب السلام، وتذكَّر أن الله هو السلام، وأن الإسلام دين السلام، وأن المسلمين هم دعاة السلام، ورسالتهم إلى الأرض جميعًا هي رسالة السلام، وتذكر من تاريخ أبائك، أنهم ما أشعلوا حربًا، أو وجهوا جيشًا، أو أعدوا عدةً إلا رحمةً بالناس وسعيًا إلى خيرهم، وإخلاص جهتهم، وربطهم بربهم، وتحرير رقبتهم عندما كان سعي غيرهم إثمًا وعدوانًا، وظلمًا، وإفسادًا في الأرض ومكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
فإذا بدأت طوافك فتذكر أنك متشبِّه بملائكة الله المقربين الذين يطوفون حول العرش، واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وتذكر أن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة، وطواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت، وتذكَّر وأنت تطوف بالبيت قول نبيك صلى الله عليه وسلم عندما جاء معتمرًا، وقد خرجت قريش إلى الجبال والشعاب ينظرون إلى المسلمين في جمعهم المهيب: "رحم الله امرءًا أراهم اليوم من نفسه قوة"، وتذكَّر أمره لأصحابه بالاضطباع (4)، (5) والرمل في الثلاثة أشواط الأولى، إظهارًا للقوة، حتى يقع الرعب في قلوب الأعداء المتربصين بأمة الإسلام، وتذكَّر أن مشركي العالم كله ينظرون إلينا ونحن في صعيد مكة الطاهر، وأهل الأرض جميعًا بحاجة إلينا؛ حيث لا يملكون منهاجًا كمنهاجنا، ولا دينًا كديننا ولا كتابًا تولى الله حفظه ككتابنا، ولا عاطفة تجمعهم كعاطفة إسلامنا، كم أنهم لا يملكون موارد للرزق كمواردنا، ولا مقومات للوحدة والاندماج كمقوماتنا، فإذا شعرت في حلقك بغصة، وفي نفسك بحسرة، ووجدت في قلبك لذع الألم ومرارة اليأس، وحرقة الخيبة، وتأنيب الضمير، لِما آل إليه أمر أمتنا، فلا تلق باللوم على غيرك، ولا تستمرئ اتهام الناس جميعًا إلا نفسك، ولا تتهم أحدًا بسواك، إنما سائل نفسك ماذا عليك أن تفعل حتى تخرج بأمتك من هذا التيه المزري، ومن الضياع الأليم، وتذكر وأنت ترمي الجمرات ما فعله الشيطان وأولياؤه بأمتنا، فقد تآمروا على خلافتنا فأسقطوها، وعلى شريعتنا فعطلوها، وعلى مناهج دراستنا فأفسدوها، وعلى وسائل إعلامنا فزيفوها، ووجهوها لإثارة الغرائز وإطلاق الشهوات، فإذا أدركت ذلك وأيقنت أن وراء تلك الحال أيد خفية آثمة لعينة، تتآمر على مستقبل الأمة لتهلكها، فاحذر أن تسلم نفسك وبيتك لهذه اليد اللعينة.
وإذا نظرت إلى الحجيج في عرفات وأدهشك ما ترى من كثرة عددهم والتحام صفِّهم، ووحدة مظهرهم وتوجه وجهتهم، وبكائهم لله رب العالمين، ثم عرفت أن هذا الكم الهائل من البشر من خلفهم مليار مسلم أو يزيدون، لا يستطيعون أن يغيظوا عدوًا أو يردوا كيدًا أو ينصروا صديقًا، فاعلم أن هذا الحال لن يدوم طويلاً، ما دام في الأمة كتاب ربها وسنة نبيها، والعقلاء المخلصون من علمائها.
ألا ليت أمة الإسلام تدرك عظيم فضل الله عليها وهدايته إليها- متمثلة في فريضة الحج- التي تمثِّل مؤتمرًا سنويًّا لا يتعب أحدًا في إعداده، وتوقيته ونقل أعضائه، وترتيب أماكنهم، وتأمين مأكلهم ومراكبهم وإنما المكان بيت الله الحرام، والزمان شهر الله الحرام، والإقامة بلد الله الآمن، والقضية قضية المسلمين جميعًا، وجدول الأعمال هو التحدِّي الغربي المسعور الذي يتربص بالأمة الدوائر، والتحدِّي اليهودي الذي سفك الدماء، وفرق الأشلاء، وهتك الحرمات، ودنَّس المقدسات، وتطاول على الله رب العالمين.
إنني لا أجد سببًا واحدًا- يصلح مبررًا لحالة الشقاق تلك- يحول بين الأمة ووحدتها، وهي التي استكملت كل مقومات الاتحاد، بينما نجحت أوروبا في تجمع صفِّها وتوحيد كلمتها وعملتها وسوقها وتجارتها، كما نجحت أمريكا في توحيد أكثر من خمسين ولاية تعدَّدت ألوانها ولغاتها وأشكالها، وعقائدها، وبرغم ذلك كله لم تجد مانعًا يحول بينها وبين وحدتها، حتى غدت في مَن يسير أعتى قوة على ظهر الأرض، وغدا لسان حالها يقول: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: من الآية15).
إن العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه لا يملك فرصة تجمع مقدس، يحفز إلى حضوره شوق قلبي، يعلن افتتاحه وختامه أمر إلهي، ويُكافأ الحاضرون فيه بجنة عرضها السموات والأرض، ويرجعون بغفران الذنوب، وطهارة القلوب، مثلُ فريضة الحج.
إنه مؤتمر يُمنع فيه اللغو والفسوق وتبادل التهم، وبذاءت اللسان، كما تتحرر فيه النفوس الضعيفة من سلطان الخوف من البشر، ليت قادة العالم الإسلامي ومفكروه، وعلماؤه وأصحاب الرأي فيه، يشدون رحالهم إلى بيت الله، فيلتقون في رحابه إخوانًا متحابين، على سرر متقابلين، قد خلت قلوبهم من الغل وبرئت من الحقد، وطهرت من النفاق وبعدت عن الحسد، وخضعت لله رب العالمين.
------------
الهوامش:
(1) البخاري 3/307، ومسلم في الزكاة باب 28 رقم 88، والنسائي 5/74، وأحمد 6/87، 108.
(2) الوكاء: هو الخيط الذي يشد على فم صرة المال، وهو كناية عن الشح بالمال.
(3) العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إسالة دماء الهدى.
(4) هو كشف الكتف والعضد رغبةً في إظهار القوة والجلد أمام الأعداء.
(5) السنن الكبرى للبيهقي 5/73- الدر المنثور 1/132.