بقلم: د. أحمد حسن
أيها الأحبة.. إن الإيمان ليس كلمة تقال، وإنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر واحتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا وهم لا يتعرضون للفتنة فيثبتوا فيها ويخرجوا منها بقلوب خالصة ثابتة كالجبال.. ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
والمراد من الثبات أن تظل أيها الأخ الحبيب عاملاً لدينك، داعيًا إليه مجاهدًا في سبيل غايتك مهما بعدت المدة وتطاولت السنون والأعوام حتى تلقى الله على ذلك.
* سنة الله في الدعوات الصادقة: بلاء يقابله صبر وثبات: واسمع إلى قوله جل وعلا: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)﴾ (آل عمران).
* إنه الطريق إلى الجنة.. إنها سنة الله في الدعوات وما يصبر على ما فيها من مشقة ويحافظ في ثناياها على تقوى الله إلا أولو العزم الأقوياء الذين لا يعرفون الشطط، ولا الاعتداء، ولا اليأس من رحمة الله.
أنواع من الثبات
1- الاستمرار على الطاعة حتى الممات هو أشق أنواع الثبات:
* أخي الحبيب.. لقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ثم اعلم أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا عملاً أثبته"، كما قالت عائشة رضي الله عنها، ومعنى ذلك: "أكده وداوم عليه حتى لو كان عملاً يسيرًا، فهو صلى الله عليه وسلم الذي قال: "خير الأعمال عند الله أدومها وإن قل" متفق عليه من حديث عائشة.
2- الثبات أمام المغريات:
ألا ترى أن الله تعالي قد قال: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7)، وجعل تثبيته للمؤمنين بعد أن ينصرهم، وليس قبل النصر والتمكين.. "ينصركم أولاً ثم يثبت أقدامكم بعد ذلك حتى لا تضعف همتكم، ولا يقل تمسككم بمنهجكم ولا تتغير قلوبكم ولا تزل أقدامكم عن طريق ربكم"، ذلك أن انفتاح الدنيا وانفراجها على المنتصرين يحتاج إلى ثبات أشد.
* ثبات لا زهو فيه ولا بطر، ثبات لا تراخي بعده ولا تهاون، فكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء، فصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر. ولقد قالها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر". فآهٍ ثم آهٍ من الدنيا إذا فتحت على العبد.. كم من فتنة يواجهها؟!
أفتنة الرجال والنساء لبعضهم؟
أم فتنة المال؟ أفتنة الجاه والرئاسة؟ أم فتنة الكرسي والمنصب؟، أفتنة العجب بالنفس والصحة؟ أم فتنة الجمال والوجاهة؟
وفتنة الأزواج والأولاد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)﴾ (التغابن).
وتذكر كلام سيد البشر، ولا فخر صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم يبات الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا ويصبح مؤمنًا ويمسى كافرًا.. يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل". والآن فقط تعرف معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾ (آل عمران).
لقد نزل قوله تعالي: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)﴾ (البقرة)، فيمن حدثتهم أنفسهم بالقعود في أموالهم لإصلاحها بعد ضياع، وذلك بعد أن مكن الله لدينه.. وهذا الأمر هو السبب في اعتبار الأزواج والأولاد أعداء- وهم أقرب الناس منا وأحبهم الينا-.
أخي الحبيب أناشدك الله أن تثبت على دعوتك وعقيدتك مهما كانت التقلبات والظروف الحياتية.
ولسوف أستثير فيك الحماسة والهمة بأن أذكرك.. "فقط أذكرك" بأن الكفار يصبرون.. ويثبتون.. أحيانًا!! حتى تعجب الله جل وعلا من صبرهم فقال عنهم: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ (البقرة: من الآية 175)!.
3- ثبات مع كر الزمان:
عندما لا يوجد عدو ظاهر يفجر فيك طاقاتك الكامنة وكم من مواجهة نجح فيها العبد عندما استثيرت فيه روح التحدي فكان ثابتًا متحديًا ثم....!! طال عليه الأمد، وأحاط به الملل الذي تولده الرتابة والأيام التي تمر بلا جديد، بلا هدف، بلا غاية، وهذا أخي الحبيب واحد من أهم أسباب قسوة القلوب واسمع إلى قوله تعالي: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾ (الحديد).
4- الثبات أمام البطش والجبروت:
أخي الحبيب إنه طريق أصحاب الدعوات، طريق إبراهيم لما ساقوه إلى النار ليلقى فيها فما زاد على أن قال حسبي الله ونعم الوكيل، وهو طريق محمد صلى الله عليه وسلم لما تجمع عليه الكفار ليقتلوه فما زاد على أن قال كما قال إبراهيم من قبل "حسبي الله ونعم الوكيل".. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران).
ووسائل مواجهة الدعوة، والعدوان على دعاتها كثيرة سجلها القرآن الكريم كلها، واستخدمها أعداء الدعوة في مواجهة أنبياء الله ورسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، فمن السخرية إلى التهمة بالكذب، إلى التهمة بالجنون، إلى الاتهام بالسحر، إلى الضرب والرجم أحيانًا، ومن السجن، إلى التعذيب، إلى النفي، إلى المحاصرة، ومن مصادرة الأموال، إلى التضييق في الأرزاق إلى التهديد بالقتل، بل كان القتل فعلاً لبعض الأنبياء والمرسلين، وكثير من الدعاة والمصلحين، ألم أقل لك أخي الحبيب "إنه طريق أصحاب الدعوات".
فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه يجرد من ثيابه ويلقى على الصخور الحامية في بطحاء مكة، وهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه يكوى ظهره بأسياخ محمرة من النار فيسيل شحمه على ظهره من شدتها، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يلفه عمه في حصير ثم يدخن عليه ليختنق بداخله. ثم أذكرك بالإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أيام المأمون، وقد ضربوه، وعذبوه، ونكلوا به، ولبث في السجن عامين ونصف العام فما تزحزح عن موقفه، وأصر على رأيه الصحيح، وكلما أفاق من إغماءة التعذيب قال: "القرآن كلام الله ليس بمخلوق". ولقد كان باستطاعته أن يتجنب كل هذا لو وافقهم على ما قالوا بلسانه فقط، ولكن هيهات لجبال العلم، والدين من أمثاله أن يمالئوا السلطان ويضلوا الناس بفتواهم، فصبر رضي الله عنه وعلمنا درسًا عظيمًا في ثبات العلماء.
* وأختم كلماتي إليكم أخوتي الأحبة بهذا الحديث الذي خرجه البخاري، وهو يحكي لنا كيف رد النبي صلى الله عليه وسلم على خباب بن الأرت، وقد جاء يشكو له من التضييق والتعذيب ويقول: "يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فاعتدل بعد أن كان متكئًا وقال له: "كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
* فإذا كنت من الذين ثبتهم الله عز وجل ولم يرهبهم البطش والجبروت، فالإغراء إذن بالمال والجاه والسلطان، ألم يفعلها ملك الروم مع عبد الله بن حذافة السهمي، فقال له وهو أسير عنده: تنصر أشركك في ملكي، فأبى رضي الله عنه.
وكررها اليهود مع السلطان عبد الحميد حين حاولوا إغراءه بمبالغ طائلة للدولة العثمانية، وتسديد ديونها مقابل التخلي عن فلسطين فرفض.
أسأل الله لي ولكم الثبات على طريق دعوة الإسلام العظيم، وأسأله أن يثبتنا عند حشرجات الموت على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
فتكون آخر كلامنا في الدنيا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدي وحبيبي ونور قلبي محمد بن عبد الله سيد الصابرين الثابتين على الحق وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.