السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من فضائل العربية الفصحى
حين نتحدث عن العربية الفصحى لا نقصد تبني الاتجاه القومي، ولا التركيز على الجنس العربي، بقدر ما نريد عربية اللسان، وهي اللغة التي سادت بين أبناء الأمة الإسلامية، أتقنها العرب الذين عُرفوا بفصاحتهم، كما أتقنها الأعاجم الذين تعلموها وألفوها وخدموها، ولذلك فلا مجال هنا لأي عصبية عرقية أو جنسية أو قومية أو إقليمية، ولا ميزة للجنس العربي على غيره أبدا في هذا المقام، لأن الأمر ينصرف إلى اللسان العربي الذي اختاره الله عز وجل لقرآنه الكريم الذي تلقاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام.
والواقع أنه يصعب حصر فضائل لغة القرآن الكريم أو تحديد مزاياها، لأنها كثيرة ومتنوعة، ولذلك سنقف عند مجموعة من النماذج التي تبرز فضائلها الكبرى، ومنها أنها :
1. لغة تعبد :
إن العربية الفصحى لغة تعبد، لاتجوز الصلاة بدونها، إذ لا تقبل صلاة بغير العربية، وهذا يجعل العبادة في حد ذاتها وثيقة الصلة بحياة الإنسان وواقعه اليومي المعيش، وليست طقوسا تؤدى في يوم معلوم، بطريقة محددة، في مكان خاص، بأي لغة ولو كانت لا علاقة لها بقضايا الناس وهمومهم وثقافتهم، كما هو الشأن بالنسبة للمسيحيين الدين يتعبدون باللاتينية التي تظل معرفتها محصورة في فئات محدودة من الناس، ويظل النص المتعبد به بواسطة تلك اللغة جامدا لاعلاقة تربطه بالمتعبَّد، لامن الناحية الروحية ولا من الناحية المادية أو الفكرية.
ودعاة التغريب يدركون هذه الحقيقة، ويعرفون مكانة العربية الفصحى من الإسلام، ويفهمون أبعاد هذا الارتباط العضوي، ولكنهم يستكثرون انعكاساته الإيجابية الكثيرة على نفوس المسلمين وهم يستعملون هذه الفصحى ويتعبدون بها في الوقت ذاته، ولذلك يسعون إلى إبعاد العربية الفصحى من صدارة اهتمامات أبناء الأمة.
2. وسيلة لربط حاضر الأمة بماضيها دون عقدة أو انغلاق:
إن العربية الفصحى وسيلة رئيسة لربط ماضي الأمة بحاضرها، عن طريقها تتمكن الأجيال المتعاقبة من فهم تراث أسلافها، وبها تستطيع أن تتواصل مع إنتاجهم وإنجازاتهم الحضارية، ماديا وفكريا، وبواسطتها تستوعب نظرياتهم، وتغوص في أسرار تاريخهم، وتصل إلى خلاصات مصنفاتهم، وتستوحي القيم الفكرية الإنسانية النبيلة التي بنوا عليها صرح الحضارة الإسلامية الشامخة المتميزة.
وإذا كان أسلاف هذه الأمة قد صانوا لغتهم وحموها وقعدوا قواعدها، ووضعوا لها الشواهد والأمثلة، وواجهوا كل محاولة للنيل منها، وضبطوا استعمالاتها بها يكفل لها الاستمرار والسلامة من كل نقص أو ضعف، وتفانوا في خدمتها باعتبارها لغة القرآن الكريم، مصداقا لقوله تعالى: " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون".(سورة يوسف، 2).
فإنهم لم يغلقوا الأبواب، ولم يحولوا دون معرفة اللغات الأخرى، بل ظلوا منفتحين على غيرهم، يتبادلون الأخذ والعطاء، ويتفاعلون مع فكرالآخرين ولغاتهم دون عقدة أو تشنج أو عصبية، ولعل ازدهار الترجمة عبر العصور في المشرق والمغرب خير دليل على ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للسلف، فمن الواجب على الخلف، وهو ينفتح على مختلف اللغات والأفكار والتيارات، أن يظل محافظا على هذه الأمانة، متشبثا بالحرص على حماية لغته، والتصدي لكل حملة مغرضة تتوخى النيل منها، ولاسيما وهي، بالإضافة إلى كونها لغة القرآن الكريم الذي حفظه الله تبارك وتعالى مضمونا ولسانا، من أقدم لغات العالم، استعمالا متصلا منذ القديم إلى اليوم، بحيث نستطيع قراءة مختلف النصوص وفهمها منذ ماقبل الإسلام إلى حاضر الناس هذا، وستظل كذلك مستقبلا، خلافا لأي لغة أخرى، بما فيها اللغات الحية التي توصف بأنها عالمية، فقد تطورت هذه اللغات تطورا سريعا جداً، ولكن بطريقة تفصل بين ماضي هذه اللغات وحاضرها، ليس على المدى البعيد فقط، بل على بعد قرنين أو أقل، بحيث يصعب، إن لم يكن مستحيلا، على الطالب اليوم أن يفهم لغة القرن السابع عشر أو الثامن عشر في فرنسا أو إنجلترا أو غيرهما إلا بوسائل مساعدة كثيرة، فما بالك إن تجاوزنا تلك المراحل إلى ماهو أقدم منها.
ولسنا هنا بصدد البحث عن طبيعة هذا التطور وأسبابه وانعكاساته، بــــقدر ما نود أن نؤكد أن العربية الفصحى وإن تطورت وارتقت وأخدت وأعطت، فقد ظلت بفضل قواعدها وضوابطها وأسس التطور والاغتناء الخاصة بها حية مستمرة، مستعملة مفهومة متداولة ومواكبة للمستجدات، وإن كان أهلها قد فرطوا فيها وقصروا في خدمتها فبسبب مجموعة من الظروف القاسية والإكراهات المتعددة التي توالت عليهم، ولو بذلوا المزيد من الجهود في خدمتها لكانت اليوم أرقى مما عليه بكثير، ولعم استعمالها في جميع المحافل، والأمل كبير في الصحوة الحالية وتطلعاتها المستقبلية.
3 . أداة لفهم الإعجاز البياني للقرآن الكريم وإدراك أسراره:
يجمع مفكرو الأمة قديما وحديثا على أن إدراك أسرارالإعجاز القرآني عامة، والإعجاز الفني البياني فيه خاصة، لايمكن أن يتحقق إلا بالبراعة في العربية، وامتلاك حاسة الفصاحة، أما بغير العربية فيظل الأمر مجرد ترجمة لمعاني القرآن الكريم، ولذلك فمعرفة العربية الفصحى والتشبث بها واجب على جميع المسلمين، وهذا الوجوب يلقي على عاتق الأمة العربية مسؤولية تعريب المسلمين من أصل غير عربي ليتذوقوا الإعجاز الفني الراقي في القرآن الكريم، ولتحقيق المزيد من التواصل.
وإذا كان الدكتور محمد عمارة يؤكد على سبيل المثال أن الإيمان بالإعجاز القرآني " مرهون بازدهار الحاسة إلى قيمة ملحوظة في الحضارة الإسلامية، ومن ثم فإن البداهة قاضية بأن يكون القرآن داعيا يزكي تنمية الحاسة الفنية لدى المسلمين"(فإن هذه القضية على صحتها والإقرار بأهميتها لايمكنها أن تتحقق إلا بإتقان العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم، والارتقاء بالذوق الفني لإدراك أسرارها والغوص في مكامن الجمال لدى الناظرين في البلاغ القرآني.
وقد نبه على ذلك عدد من دارسي الإعجاز القرآني من الناحية البيانية في القديم أيضاً، وفي مقدمتهم الباقلاني (ت 403هـ) الذي أكد " أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يَعْلموا أن العرب قد عَجزوا عن ذلك، فإذا عرفوا هذا، بأن علموا أنهم تحدوا إلى أن يأتوا بمثله، وقُرِّعُوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به، تبينوا أنهم عاجزون عنه، وإذا عجز أهل ذلك اللسان، فهم عنه أعجز"
وهذا لايعني أن المتعمقين في العربية من غير أهلها يعجزون عن إدراك سر الإعجاز والوقوف على مظاهره، فتحصيل القدر الكافي من العربية يجعل العربي وغير العربي في ذلك سواء، بل إن كثيرا من العجم تفوقوا على العرب، كما أن كثيراً منهم خدموا القرآن الكريم وبرعوا، في علوم الإسلام، وقدموا الشيء الكثير للغة العربية، بما حصلوه من ثقافة عربية إسلامية عميقة، أكثر مما فعل العرب الأقحاح أحيانا، وكذلك الأمر بالنسبة لأبناء العربية الذين لا يتقنونها ولا يتعمقون فيها ،فإنهم سيظلون غير قادرين على إدراك أسرار الجمال البياني، ولايستطيعون وضع أيديهم على النماذج الزاخرة منه.
4 . عامل توحيد والتئام :
إن العربية الفصحى عامل توحيد والتئام، بخلاف اللهجات الإقليمية، والعاميات المحلية التي تفرق وتؤدي إلى الاختلاف.
5 . عنصر قوة:
إن اللغة الموحدة تسهم في توحيد مفاهيم العقيدة، وتؤدي إلى المزيد من التقارب والتواصل بين أبناء الأمة دون حواجز، وذلك كله يشد من عضدهم ويقوي وشائج الصلة فيما بينهم.