السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة السيدة عائشة مع السيدة حفصة ممكن نقرأها سوا
زواج النبي من حفصة، وموقف السيدة سودة منها، وذكرنا أنها قبلتها بقبول حسن، وأن الغيرة كانت عند سيدتنا عائشة، غير أنه بمرور الوقت تحوّلت الغيرة إلى تقارب، والمنافسة إلى ودّ.. فما هو سبب هذا الود المتقارب بين عائشة وحفصة, وماذا فعل سيدنا عمر حينما علم بذلك؟
لقد تضاءلت غيرة عائشة من حفصة, لما رأت النساء يتوافدن على بيت النبي, زوجات أخريات؛ زينب، وأم سلمة، جويرية، وصفية, فلما كثرت الضرات, خفّت عليها مشكلتها من حفصة.
زواج النبي له حكمة كبيرة جداً؛ هو أبعد ما يكون عن رغبته في المرأة، لكنه ألَّف قلب عمر من زواجه من حفصة، ألف قلوب أصحابه الكبار، وألّف القبائل، وألف الأطراف الأخرى، فزواجه زواج مصلحة للدعوة عليه الصلاة والسلام.
لكن عائشة صافتها الود، وهو حدث غريب، أن ضرتين متنافستين تتفقان، سيدنا عمر تنبه لهذا التقارب غير المألوف بين المرأة وضرتها، وشَمَّ عمر من تقاربهما أن من ورائه ما يشبه أن يكون حلفاً داخلياً تجاه تزايد زوجات رسول الله، فأخذ عمر يحذر ابنته من مسايرة صاحبتها، وليس لها مثل حظها من حب رسول الله، ولا من مكانتها في قلبه، ولا لعمر مكانة أبي بكر من رسول الله فقال لها ذات مرة: يا حفصة, أين أنت من عائشة، وأين أبوكِ من أبيها؟
فمتى زجر سيدنا عمر ابنته حفصة وعلا صوته عليها؟
سمع سيدنا عمر يوماً من زوجته أن ابنته حفصة تراجع رسول الله بالكلام -أي ترد- فمضى إليها غاضباً، فما إن دخل عليها سألها عما قد سمع عنها، وهي صادقة, فأجابته بأنه قد حصل، فعلا صوته عليها وزجرها، وقال لها: "تعلمين أني أحذركِ عقوبة الله، وغضب رسوله يا بُنية، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، وحب رسول الله إياها، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لولا أنا لطلقك".. أي أبقاك عنده من أجلي.
ولمن يسأل كيف كانت تتعامل مع رسول الله هكذا؟ نقول إن هذه الزوجة, كانت صاحبة جرأة أدبية، جريئة، ومتكلمة، وفصيحة، ولو كانت بين يدي رسول الله، فكلكم يعلم أن الكلفة مرفوعة بين الزوجين, ولا يوجد حواجز إطلاقاً، فالواحد منا يكون خارج بيته له مكانته وشأنه, لكن في البيت هو أحد أفراد الأسرة، العلاقات الحميمة بين الزوجين تذيب الحواجز الضخمة، في مودة، وفي طمع، فتأتي كلمة زائدة أحياناً، والنبي لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر.
السر الذي أذاعته حفصة فطلقها النبي:
حادثة أخرى حصلت مع حفصة, كانت سبباً في طلاقها طلاقاً رجعياً، طلقة واحدة.
قال العلماء: يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. وهذه الآية سياقها في سورة الطلاق، من اتقى الله في تطليق امرأته جعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها، فالنبي أدبها بطلقة واحدة؛ لأنها أفشت سر رسول الله، أفشت سراً استكتمها إياه رسول الله.
القصة: أن النبي عليه الصلاة والسلام, خلا مرة بمارية القبطية في بيت حفصة، تألَّمت حفصة أشد الألم من هذه الضرة، لم يتزوجها بعد، فمارية جاءته هدية من المقوقس، فبكت حفصة أمامه، فلما بكت أراد النبي أن يسترضيها, فقال: ألا ترضين أن أحرمها على نفسي فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرمها على نفسه، وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد، فرضيت حفصة بذلك، وسعدت ليلتها بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أصبحت الغداة, لم تستطع كتمان هذا السر، فنبَّأت به عائشة، وقالت لها: البارحة جاء عندي النبي صلى الله عليه وسلم، وبكيت أمامه فحرم مارية على نفسه، فأنزل الله قوله الكريم, معلماً ومرشداً، وهادياً ومؤدباً, لحفصة خاصة, وللنساء عامة: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير}.
لم تقدِّر حفصة رضي الله عنها, وهي تذيع السر لعائشة, عواقب هذا الإفشاء، فيقال, ليس على التأكيد: إنه طلقها طلاقاً رجعياً, طلقة واحدة تأديباً لها، وقد بلغ ذلك عمر، كما تروي الرواية, فحسا التراب على وجهه من شدة ألمه، واسود وجهه أمام رسول الله، وقال: وما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، هو اعتبر نفسه حقق مكسبًا كبيرًا جداً, بتزويج ابنته من رسول الله، فصار النبي صهره.
فنزل جبريل عليه السلام من الغدِ على النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً بعمر. (أي لمكانة عمر عند الله).
وفي رواية أخرى, أن جبريل قال: "أرجع حفصة, فإنها صوامةٌ قوامة، وإنها زوجتك في الجنة".
فما الذي فعله النبي مع أهل بيته بعد هذه الحادثة, وهل الخبر الذي شاع بأن النبي طلق زوجاته صحيح, وما هو الحوار الذي جرى بين النبي وعمر؟
بعد هذا الحادث اعتزل النبي نساءه شهرًا، وأدَّبهن، وشاع الخبر أن النبي طلّق نساءه، ولم يكن أحد من الصحابة, يجرؤ على الكلام معه في ذلك، حتى إن عمر استأذن عدة مرات ليدخل عليه، فلم يؤذن له، فذهب مسرعاً إلى بيت ابنته حفصة, فوجدها تبكي، فقال: "لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقكِ، إنه كان قد طلقكِ مرة، ثم راجعكِ من أجلي، فإن كان طلقكِ مرة أخرى, لا أكلمك أبداً"، هكذا ورد في السيرة.
ثم ذهب ثالثةً يستأذن النبي، فأذن له، فدخل عمر والنبي متكئٌ على حصير, قد أثر في جنبه, فقال: يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فرفع النبي رأسه إليه، وقال: لا، فقال عمر: الله أكبر، ثم قال سيدنا عمر من شدة فرحه: لو رأيتنا يا رسول الله, وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً, فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني, فقالت: ما تنكر أن أراجعك, فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؟ فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله، إذن هي قد هلكت، هذا كلام سيدنا عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتبسَّم النبي لهذا القول، وأعجبه.
فقال عمر: يا رسول الله, قد دخلت على حفصة, فقلت لها: لا يغرنَّك أن كانت جاريتك, أي عائشة, لأنها كانت أصغر منها, هي أوسم وأحب إلى النبي منكِ، فتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ أي أجلس. فقال: نعم. فجلست, فرفعت رأسي في البيت، والله ما رأيت في البيت شيئاً يردّ البصر، فقال: رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير, فاستوى النبي جالساً, وقال: أَوَفِي شَكٍّ أنت يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. -وفي رواية: "إنها نبوةٌ وليست ملكاً" وفي رواية: "أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟". فقلت: استغفر لي يا رسول الله..
وكان عليه الصلاة والسلام: أقسم ألا يدخل عليهن شهراً, من شدة ما وجده عليهن, حتى عاتبهما الله عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، والمقصود عائشة وحفصة, قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
ثم جاءت الآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}.
وملخص هذه القصة وعبرتها:
أن الذي جرى في بيت النبي, يجري في بيوت المؤمنين، والنبي وقف الموقف الكامل، وقد لاحظتم؛ ففيه الشدة، وفيه اللين، وفيه الرحمة، والعطف، والحكمة، أمام منافسة شريفة، وطباع أنثوية طبيعية، هذا كله نتعلَّمه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام. فاصبروا على نسائكم، عسى الله أن يصلح شأنهن لكم ويصلح شأنهن بكم.