بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث رواه الإمام أحمد (17545) عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ
يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ) .يخطئ كثير من الناس في فهم هذا الحديث ، حيث يجعلونه مطية لهم في الحكم بالتحليل أو التحريم على وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم ورغباتهم ، فيرتكبون ما يرتكبون من المحرمات ويقولون : (استفت قلبك) !! مع أن الحديث لا يمكن أن يراد به ذلك ، وإنما المراد من الحديث أن المؤمن صاحب القلب السليم قد يستفتي أحداً في شيء فيفتيه بأنه حلال ، ولكن يقع في نفس المؤمن حرج من فعله ، فهنا عليه أن يتركه عملاً بما دله عليه قلبه .
قال ابن القيم رحمه الله : "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله ، وتردد فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) .
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ) رواه أحمد (29/278-279) طبعة مؤسسة الرسالة ، وصححه المحققون بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط . وقال المنذري : "إسناده جيد" انتهى . "الترغيب والترهيب" (3/23) ، وكذلك قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/251) ، والشيخ الألباني في "صحيح الترغيب" (2/151) .
وهو من أحاديث الأربعين النووية ، وقد حسنه النووي والمنذري والشوكاني ، وحسنه الألباني لغيره في "صحيح الترغيب" (1734) .
وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على ما دل عليه حديث وابصة ، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) رواه مسلم (2553) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر ، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض"
وفي هذا قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"(الإثم ما حاك في نفسك) أي : تردد وصرت منه في قلق (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك متردداً فيه وتكره أن يطلع عليك الناس .
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
والله اعلم