بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم ثريا
قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾ (الرحمن).
قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ الْعَدْلَ مِيزَانُ اللَّهِ الَّذِي وَضَعَهُ لِلْخَلْقِ، وَنَصَبَهُ لِلْحَقِّ، فَلاَ تُخَالِفْهُ فِي مِيزَانِهِ، وَلاَ تُعَارِضْهُ فِي سُلْطَانِهِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى الْعَدْلِ بِخُلَّتَيْنِ: قِلَّةُ الطَّمَعِ، وَكَثْرَةُ الْوَرَعِ.
ونسوق إلى القارئ الكريم بعض المعاني حول هذه الآيات:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾: أي وضع العدل بين خلقه في الأرض.
﴿أَلاَّ تَطْغَوْا﴾: ألا تظلموا وتبخسوا في الوزن، عن قتادة رحمه الله قال: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وَأَوْفِ كما تحب أن يُوفَى لك، فإن العدل يصلح الناس (1).
وروي أن ابن عباس رأى رجلاً يزن قد أرجح، فقال: أقم اللسان، أقم اللسان، أليس قد قال الله: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.
﴿وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾: أي ولا تنقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم، وقال قتادة، قال ابن عباس: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم، اتقى الله رجل عند ميزانه، اتقى الله رجل عند مكياله، فإنما يعدله شيء يسير، ولا ينقصه ذلك، بل يزيده الله إن شاء الله (2).
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى: 17)، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)﴾ (الحديد).
وعن قتادة: "أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك"، وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.
وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين! أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن" (3).
وقال الفخر الرازي في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾: فإن قيل: العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة، وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء؟!
ويجيب الرازي بقوله: النفوس تأبى الغبن، ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر، ولو في الشيء اليسير، ويرى أن ذلك استهانة به، فلا يتركه لخصمه لغلبة، فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه، فلولا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر، فكما أن العقل والعلم صارا سببًا لبقاء عمارة العالم، فكذلك العدل في الحكمة سبب، وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه، كالهواء والماء، اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما (4).
وقال سيد قطب: وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ ميزان الحق، وضعه ثابتًا راسخًا مستقرًّا، وضعه لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث والأشياء؛ كي لا يختلَّ تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى.. وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن (5).
إن الواجب على كل مسلم صادق الإيمان أن يعطي العدل من نفسه بأن يعطي لكل ذي حق حقه، فحق الله تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع هديه والسير على نهجه، وحق الناس ألا يجور عليهم وألا يعتدي على حرماتهم، ولو أنصف الناس فيما بينهم لعمَّ العدل وانتشر الأمن وسعد الناس أجمعين.
---------
* الهوامش:
1- الدر المنثور 9/355، وعزَّاه إلى ابن جرير وابن المنذر
2- الطبري 22/11- 15
3- الفخر الرازي: 16/402
4- الفخر الرازي: 16/402
5- في ظلال القرآن 7/97
[center]