هل الجن مكلفون ؟
قلت: الجن مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماماً وذلك لأنهم خلقوا للعبادة كما يقول الله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإنس إلا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
والعبادة هي الخضوع للإله على وجه التعظيم ، وهذا يتطلب تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه وهذا لا يكون إلا لمكلف .
قال ابن عبد البر : الجن عند الجماعة – أي أهل السنة والجماعة - مخاطبون مكلفون لقوله تعالي {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الإنس إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرض فانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ }الرحمن33 ، ولقوله تعالي {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }الرحمن16. قال الرازي في تفسيره :
اتفق الكل على أن الجن كلهم مكلفون . قال القاضي عبد الجبار : لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في أن الجن مكلفون . قال السبكي في فتاويه : فإن قلت : إنهم مكلفون بشريعته (r) في أصل الإيمان ، أو في كل شيء ؟بل في كل شيء ، لأنه إذا ثبت أنه ـ أي رسول الله -" صلى الله عليه وسلم "- ـ مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس ، والدعوة عامة ، والشريعة عامة ـ لزمهم جميع التكاليف التي توجد أسبابها فيهم ، إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها . وفي كتاب (( لقط المرجان )) إنهم يجب عليهم الصلاة ، والزكاة إن ملكوا نصاباً بشرطه ، والحج ، وصوم رمضان ، وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشرعية )). قال العلامة عز الدين بن جماعة في(( شرح بدء الأمالى )): المكلفون على ثلاثة أقسام : قسم كلف من أول الفطرة قطعاً وهم الملائكة وآدم وحواء ،وقسم لم يكلف من أول الفطرة وهم أولاد آدم ، وقسم فيهم نزاع ، والظاهر أنهم مكلفون من أول الفطرة وهم الجان .
يقول الدكتور عبد الله بدر ، أستاذ التفسير بالأزهر الشريف : (( الجن مكلفون كسائر خلق الله ولذلك فمنهم المؤمن ومنهم غير المؤمن ومنهم الطائع ومنهم العاصي ، والجن أنفسهم يحدثوننا بذلك حيث يقولون كما أخبرنا الله سبحانه وتعالي عنهم {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً }الجن14، فهذه الآية وهي من سورة الجن تقطع كما جاء على ألسنة الجن أنفسهم بأن منهم المسلم ومنهم غير المسلم ، وقد جاء على لسانهم أيضا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً }الجن11
ولذلك لما كانوا كالإنس في مسألة الإيمان والصلاح خاطبهم الله سبحانه وتعالي في القرآن كما خاطب الإنس وذلك في غير موضع نذكر منها على سبيل المثال :قول الله سبحانه وتعالي : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الإنس إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرض فانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ }الرحمن33 جاء الخطاب في هذه السورة وهي سورة الرحمن للإنس وللجن فتكرر فيهما قول الله سبحانه وتعالي : {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }الرحمن25 ،وقال الله سبحانه وتعالي : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإنس إلا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
فهذه الآيات فيها دليل على أن الجن مكلفون كالإنس ومخاطبون كالإنس ،بل وهناك من الآيات ما يشير إلى أن لهم رسلاً منهم كالإنس تماماً ،قال الله تعالي : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } الأنعام130 هذا ومن المعلوم أن النبي -" صلى الله عليه وسلم "- قد أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس، فمنهم من سمع القرآن فآمن به ، فقال تعالي : {قُلْ أُوحِيَ إلى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً{2} الجن1،2
ويحدثنا عبد الله بن عباس - رضي الله تعالي عنهما - عن سبب نزول هذه الآيات فيقول رضي الله تعالي عنه : (( انطلق النبي (r) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاز وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرفوا أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي (r) وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاز وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنا لك حين رجعوا إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً )) فأنزل الله على نبيه (r) (({قُلْ أُوحِيَ إلى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }الجن1)) وإنما أوحي إليه قول الجن )) رواه البخاري ومسلم . ففي هذا الحديث يبين لنا عبد الله بن عباس - رضي الله تعالي عنهما - قصة إيمان الجن بالقرآن وبالنبي (r) وذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع من السماء وفجأة حيل بينهم وبين استراق السمع وأرسلت عليهم الشهب ، فأدركوا أنه ما حدث ذلك إلا لأمر قد حدث ، فأخذوا يطوفون مشارق الأرض ومغاربها يبحثون عن العلة والسبب ، وإذا ببعضهم وقد توجهوا نحو تهامة فوجدوا النبي (r) يصلي بأصحابه الفجر ويتلوا في صلاته القرآن الكريم ،فأخذوا ينصتون لكلام الله تعالي ويتدبرون فيه ،فإذا به يملك قلوبهم ويؤثر في عقولهم ووجدوا له حلاوة وتلمسوا فيه منطق صدق فأيقنوا أنه من عند الله تعالي ،فأمنوا ،وصدقوا ،وحملوا هذا الخبر إلى قومهم ؛فآمن به من آمن وكفر به من كفر ، ونزل الوحي على رسول الله (r)ويخبره بذلك ،وأعلمه أنه كما أرسل إلى الإنس فقد أرسل إلى الجن كذلك ،وبدأت بعض الطوائف تأتي إلى رسول الله (r) تطلب منه سماع القرآن الكريم ، وتطلب منه الدعاء بأن يوفر لهم الزاد الحلال كما بينا ذلك في الحديث عن طعامهم ،وبدأ القرآن الكريم يخاطب الجن كما يخاطب الإنس خاصة في العقيدة والعبادة والوعد والوعيد ،وسورة الرحمن خير شاهد على ذلك ، هذا وسورة الأحقاف تصور لنا أيضا قصة إيمان الجن ودعوتهم لقومهم فيقول سبحانه وتعالي : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ{30} يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ{31} وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{32} وهذه الآيات تؤكد أموراً :
1]-أن دعوة النبي (r) عامة للإنس وللجن سواء بسواء، ويظهر ذلك جلياً في قولهم : (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ).
2] - أن الجن تحصي أعمالهم … فهم لهم درجات وأجر على كل عمل صالح وعليهم وزر على كل عمل غير صالح ، والتائب منهم ينعم بمغفرة الله تعالي … يظهر ذلك جلياً في قولهم : {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الأحقاف31 . فهذا القول يبين أن ذنوبهم وخطاياهم تحصي عليهم ، وأن هناك ما يغفرها ويكفرها ، وإن كان الأمر كذلك فدرجاتهم على أعمالهم الصالحة تحصي لهم أيضا ، ويؤكد ذلك قوله تعالي {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } الأنعام132 حيث إن الضمير في قوله : عملوا ) يعود إلى الإنس والجن ؛ لأن الخطاب قبل ذلك كان موجهاً إليهما ، حيث قال الله تعالي {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } الأنعام130
3]- أن الجن سيحشرون كالإنس تماماً ، يتضح ذلك من قولهم : ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض فهذا دليل على أن الواحد منهم لن يفلت من عقاب وحساب الله ، وهذا يؤكد أنهم سيعرضون للحساب بين يدي الله وهذا عند الحشر ، ومن النصوص من يقطع بأنهم سيحشرون كالإنس ، قوله تعالي {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلا مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } الأنعام128
فالكلام في الآية عن يوم الحشر والخطاب في هذا اليوم - كما تشير الآية - سيكون للجن و الإنس .
4]- أن الجن سيعذبون على أعمالهم الطالحة ، يوضح ذلك قوله تعالي {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الأحقاف31 لذا فهم سيعذبون ، والعذاب سيكون لهم مؤلماً شديداً ، وما دام الأمر كذلك ؛ فالطائع منهم سينعم ، وهذا يجعلنا نتسائل … هل سيكون عذابهم بالنار ونعيمهم في الجنة .))
قال السبكي : ولا شك أن الجن مكلفون في الأمم الماضية كما هم مكلفون في هذه الملة ،والتكليف إنما يكون بسماعهم من رسول الله أو من صدق عنه .(الرد المبين .إبراهيم عبد العليم .ص (14-18)