الفصل الخامس: آراء المفسرين في المس الشيطاني
وهنا قمنا بجمع كم كبير من كلام العلماء المفسرين حتى نرد علي كل من يقول أن العلماء القدامى لم يذكروا المس أو لم يتكلما عنه
1-**أضواء البيان في إيضاح القرآن:-
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي: من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُه ُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [2/275]، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا.
2-** أيسر التفاسير للجزائري :-
{لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُه ُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }[2/275]
{ لا يقومون } : من قبورهم يوم القيامة .
{ يتخبطه الشيطان } : يضربه الشيطان ضرباً غير منتظم .
{ من المس } : المس الجنون ، يقال : بفلان مسّ من جنون .
{ موعظة }: أمر أو نهي بترك الربا.
3-** تفسير البحر المديد:
قول الحقّ جلّ جلاله : { الذين يأكلون الربا } أي : يأخذونه ، وإنما خص الأكل لأنه أعظم منافع المال ، { لا يقومون } من قبورهم يوم البعث { إلا كما يقوم } المجنون { الذي يتخبطه الشيطان من } أجل { المس } الذي يمسه يقوم ويسقط ، رُوِيَ أن بطونهم تكون أمامهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ،وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما أُسْرِيَ بِي إلى السماء رأيتُ رِجالاً بُطُونُهُمْ كَالبُيوتِ ، فيهَا حَيَّاتٌ تُرى مِنْ خِارِجِ بُطُونِهمْ ، فقلت مَنْ هؤلاءِ يا جِبْرِيل؟ فقال : أكَلَةُ الرِّبا » .
4-**التبيان تفسير غريب القرآن:
{لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُه ُالشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }[2/275]
الربا أصله الزيادة لأن صاحبه يزيد على ماله ومنه قولهم أربى فلان على فلان إذا زاد عليه في القول
يتخبطه الشيطان من المس أي الجنون يقال رجل ممسوس أي مجنون.
5-**التحرير والتنوير:
وقوله: {لا يَقُومُونَ} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازا على تحسن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون - يوم يقوم الناس لرب العالمين- إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.
والتخبط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له، أي تحرك تحركا شديدا، ولما كان من لازم هذا التحرك عدم الاتساق، أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق. ثم إنهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعديا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعوضا عن أن يقولوا خبطه فتخبط يقولون تخبطه كما قالوا: اضطره إلى كذا فتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا، أي متحركا على غير اتساق.
والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات،ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلا لما فهمت الهيأة المشبه بها، وقد عرف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلا كاملا:
وتصبح عن غب السري وكأنها... ألم بها من طائف الجن أولق1
والمس في الأصل هو اللمس باليد كقولها2: " المس مس الأرنب" وهو إذا أطلق معرفا بدون عهد مس معروف دل عندهم على مس الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنما أحتيج إلى زيادة قوله من
المس ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة. و"من" ابتدائية متعلقة بيتخبطه لا محالة.
وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله:"طلعها كأنه رؤوس الشياطين" وقول امرؤ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
إلا أن هذا أثره مشاهد وعلته متخيلة والآخران وتخيلان لأنهم
ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة.وعندنا أيضا مبني على تخييلهم والصرع إنما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرة عند الأطباء المتقدمين وتشنج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلا أنه يجوز عندنا أن تكون هذه العلل كلها تنشأ في الأصل من توجهات شيطانية، فإن عوالم المجردات - كالأرواح - لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعل لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الفساد في الكون.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} الإشارة إلى {كَمَا يَقُومُ } لأن ما مصدرية، والباء سببية.
والمحكي عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنوا بسوء فهمهم أن الربا مثل البيع.
6-**التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي:
لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلاّ كالمجنون ، ويتخبطه يتفعله من قولك : خبط يخبط ، والمس الجنون ، ومن تتعلق بيقوم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } تعليل للعقاب الذي يصيبهم .
7-**التفسير الميسر:
الذين يتعاملون بالربا -وهو الزيادة على رأس المال- لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون.
8-**الدر المنثور:
أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال : يعرفون يوم القيامة بذلك ، لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق ، { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }
9-**الكشف والبيان:
قوله تعالى : ) لا يقومون ( يعني يوم القيامة من قبورهم ) إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه ( أي يصرعه ويخبطه ) الشيطان ( وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط ، التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها الأرض . قال زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطي يعمر فيهرم
) من المسّ ( الجنون . يقال : مسّ الرجل وألِس فهو ممسوس ومالوس ، إذا كان مجنوناً ، وأصله مسّ الشيطان إياه . ومعنى الآية : إنّ آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنوناً ، وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان . قاله قتادة .
1 . -**المحرر الوجيز:
ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون } ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفة ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود « لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .
قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]
وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما ... أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } « يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والرود ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .
11-**النكت والعيون:
{ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } يعني من قبورهم يوم القيامة ، وفيه قولان :
أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع ظهراً لبطن، ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
والثاني : قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والحسن : لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس ، يعني الجنون ، فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا .
واختلفوا في مس الجنون ، هل هو بفعل الشيطان؟
فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه، ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه.
وقال آخرون : بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض ، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه .
12-**الوجيز للواحدي:
{ الذين يأكلون الربا } أيْ : يُعاملون به ، فَنَبَّه بالأكل على غيره { لا يقومون } من قبورهم يوم القيامة { إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان } يصيبه بجنونٍ { من المس } من الجنون ، وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً .
13-**التفسير الوسيط لشيخ الأزهر الدكتور / محمد سيد طنطاوي :
وقال - تعالى - : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . } استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا ، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها .
ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد ، لأن الصدقة - كما يقول الفخر الرازي - عبارة عن تنقيص المال - في الظاهر - بسبب أمر الله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين .
والأكل في الحقيقة: ابتلبالأكل،م، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا. وعبر عن التعامل بالربا بالأكل ، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل .
والربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . . } أي : زادت .
وهو في الشرع : - كما قال الآلوسي - عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .
وقوله : { يَتَخَبَّطُهُ } : من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق . يقال: خبطته أخبطه أي ضربته ضرباً متواليا على أنحاء مختلفة. ويقال: تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء. قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
رأيت المناي خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطى يعمر فيهرم
والمس: الخبل والجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون. وأصل المس اللمس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الإِنسان فيجنه . والمعنى : { الذين يَأْكُلُونَ } أي يتعاملون به أخذا وإعطاء { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة للقاء الله إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك لأنه قياماً منكراً مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه .
فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا.
وهنا نحب أن نوضح أمرين:
أما الأمر الأول: فهو أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك.
قال الآلوسي : وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا فمن أكل الربا فبعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط " ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله - تعالى - جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له .
ثم قال . وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " .
والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا في قلق مستمر ، وانزعاج دائم ، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم . . . ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبهالشديد،ين في أقوالهم وحركاتهم. أما في الآخرة فقد توعدهم الله - تعالى - بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم.
وقد رجح الإِمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً . . . وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجاباً بينه وبين الله - تعالى - ، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره " .
وأما الأمر الثاني: فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضاً أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة، بمعنى أن الآية تشبه حال بحال المجنون الذي مسه الشيطان، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون.
ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك ، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك ، فقد قال الزمخشري في تفسيره : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإِنسان فيصرع . المس والجنون ، ورجل ممسوس - أي مجنون - وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجني يمسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " .
ومن العلماء الذين تصدون للرد على الزمخشري ومن تابعه الإِمام القرطبي فقد قال : " وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإِنسان ولا يكون منه مس . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً "
وقال الشيخ أحمد بن المنير : ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب ، أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك . وهذا القول من تخبط - الشيطان بالقدرية - أي المعتزلة - في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع ، ثم قال : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها ، والقدرية ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . . من ذلك السحر ، وخبطة الشيطان ، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم ، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق ، لأن الشيطان قد يمس الإِنسان فيصيبه بالجنون ، ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه .
وقوله : { مِنَ المس } متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما يقوم المصروع من جنونه .
14-**تفسير( في ظلال القرآن):
{ لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } . .
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة. . صورة الممسوس المصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس ، لاستجاشة مشاعر المرابين ، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث. ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضاً . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي .
15-**محاسن التأويل (تفسير القاسمي):
{ لاَ يَقُومُونَ } أي : يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } في القاموس خبطه : ضربه شديداً ، كتخبطه واختبطه . وفي " العباب " : كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه . وأصله [ في المطبوع: وأصل ]: المس باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الْإِنْسَاْن فيجنه. والجار يتعلق إما بلا يقومون أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بيتخبطه أي : من جهة الجنون . والمعنى : أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين . تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكاً لهم وفضيحة .
قال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة . ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرق لا بعقل. يقبل في محل الإدبار ، ويدبر في محل الإقبال .
قال البقاعي : وهو مؤيد بالمشاهدة . فإنا لم نرَ ولم نسمع قط بآكل ربا ينطلق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم.
تنبيه:
قال في الكشاف : وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الْإِنْسَاْن فيصرع . والمس: الجنون، ورجل ممسوس . وهذا أيضاً من زعماتهم . وأن الجني يمسه فيختلط عقله. وكذلك: جُنّ الرجل، معناه: ضربته الجن.
وتبعه البيضاوي في قوله وهو: أي: التخبط والمس، وارد على ما يزعمون الخ.
قال الناصر في " الانتصار " : معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي : كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها . وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية ، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع . ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار: وقال بعده: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها . وإنما القدرية خصماي العلانية . فلا جرم أنهم ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن . وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة ، وينبئ عنه ظاهر الشرع ، في خبط طويل لهم .
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد " : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء . ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء .
وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية. ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف ، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الْإِنْسَاْن ، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات .
قال العلامة البقاعي ، بعد نقله ما ذكرنا : وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : } إن الشيطان يجري من الْإِنْسَاْن مجرى الدم { . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب . ونحو ذلك. وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك . وأما مشاهدة المصروع ، يخبر المغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جداً . لا يحصى مشاهدوه . إلى غير ذلك من الأمور الموجب للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين . وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق.
روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن ابني به جنون ، وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا ، فيخبِّت علينا . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا . فثعّ ثعّةً . وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى . وقوله : ثعّ ، بمثلثة ومهملة ، أي : قاء .
وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند حسن أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر . فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير ، تظلنا . فعرضت له امرأة معها صبي لها . فقالت: يا رسول الله ! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات. فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل . ثم قال : اخسأ ، عدو الله ! أنا رسول الله ثلاثاً ثم دفعه إليها.
وأخرجه الطبراني من وجه آخر . وبيَّن أن السفر غزوة ذات الرقاع ، وأن ذلك كان في حرَّة واقم . قال جابر : فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان . فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما. فقالت: يا رسول الله ! اقبل مني هديتي . فوالذي بعثك بالحق ! ما عاد إليه بعد . فقال : خذوا منها واحداً ، وردوا عليها الآخر .
ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه .
ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل . قال : وذلك كثير جداً . يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك. وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.
16-**مختصر تفسير البغوي:
قوله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } ، أي : الذين يعاملون به ، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال { لَا يَقُومُونَ } , يعني يوم القيامة من قبورهم { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ } , أي يصرعه { الشَّيْطَانُ } أصل الخبط : الضرب والوطء ، وهو ضرب على غير استواء ، يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمه { مِنَ الْمَسِّ } , أي : الجنون ، يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا ، ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع .
17-**التفسير المنير د/وهبه الزحيلي:
الذين يأخذون الرّبا، ويستحلّونه حبّا في المال وعملا بالأهواء، ويأكلون
أموال الناس بالباطل ومن غير عمل ولا جهد: مثلهم في الاضطراب والقلق وتعذيب الضمير والوجدان والانهماك في الأعمال والدّنيا كمثل المصروعين الذين تتخبطهم الشياطين، وتمسّهم الجنّ، وتضربهم وتصرعهم، وهم في الآخرة- من وقت قيامهم من قبورهم إلى البعث والنشور- أشدّ تخبّطا واضطرابا وتثاقلا في حركاتهم، بسبب ثقل المال الحرام الذي أكلوه من الرّبا، مما جعلهم متميزين عن بقية الناس في تعثرهم وسقوطهم كلما همّوا بالنهوض والقيام، وهذه صورة في غاية القبح والبشاعة، ودليل على ما يحدثه النظام الرأسمالي الرّبوي في العالم المعاصر من هزّات وقلق واضطراب وخوف وأمراض عصبية ونفسية.
وجمهور المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: لا يَقُومُونَ القيام من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم ونشورهم، فعلامتهم أنهم لا يقومون منها إلا كما يقوم المصروع حال صرعة وتخبّط الشيطان له،
قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق» .
واقتصر جماعة (وهم ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة ومقاتل بن حيان) على القول: بأنهم لا يقومون يوم القيامة. وإنما عبّر بالقيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في ممارسة العمل.
18-**الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور:
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قال: (الذين يأكلون الربا لا يقومون) الآية، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا وبهم خبل من الشيطان.